وَمَا مُحَمَّدٌ إِلارَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوقُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللهَ شيئاً وَسَيَجْزِي اللهُ الشَّاكِرِينَ). (آل عمران:143 ـ 144) .
وهاتان آيتان من أربعين آية نزلت في معركة أحُد(آل عمران139 ـ 179) يوم افتضح الصحابة وهربوا ! بعضهم عدواً متسلقين جبلَ أحد ، وبعضهم ركضاً الى المدينة ! تاركين النبي صلى الله عليه وآله وسلم لسيوف قريش ورماحها ! ولم يثبت معه صلى الله عليه وآله وسلم إلا عليٌّ عليه السلام وأبو دجانة الأنصاري ، ونسيبة بنت كعب ! ثم اشتد الوطيس فاستشهد أبو دجانة رحمه الله وجرحت نسيبة ، فلم يبق معه إلا علي عليه السلام وحده !
وفي ذلك الوقت العصيب جاءت فاطمة الزهراء عليها السلام من المدينة راكضة الى المعركة كالصقر المنقضّ ، تواسي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بنفسها ، وتضمد جراحه !
واغتنمت قريش فرصة فرار الصحابة ! فركزت حملاتها لقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وعليٌّ عليه السلام يردها الواحدة تلو الأخرى ! وقد قاتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم في أول الأمر قتالاً شديداًً ، رمياً بالقوس وضرباً بالسيف وطعناً بالرمح ، ثم عمل بأمر ربه فانتهى (إلى صخرة فاستتر بها ليتقي بها من السهام سهام المشركين ، فلم يلبث أبو دجانة إلا يسيراً حتى أثخن جراحة فتحامل حتى انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فجلس إلى جنبه وهو مثخن لا حراك به . وعليًّ لايبارز فارساً ولا راجلاً إلا قتله الله على يديه حتى انقطع سيفه)(البحار:20/104، عن تفسير فرات) .
فأعطاه رسول الله ذا الفقار ، وكانت تأتي الحملة وأمامها فوج الرماح ، أو الفرسان ، فيحمل عليهم علي عليه السلام ويشق صفوفهم ويقتل قائدهم فينهزمون ، ثم تعود كتيبةٌ أخرى بقائد جديد وطمع جديد أن يقتلوا محمداً وعلياً !
كان جيش المسلمين في معركة أحُد نحو ألف مقاتل ، والمشركين نحو ثلاثة آلاف ، وقد انتصر المسلمون أولَ الأمر ، لكنهم عصوا النبي صلى الله عليه وآله وسلم وتركوا مواضعهم وركضوا ليجمعوا الغنائم ، فاغتنم الفرصة خالد بن الوليد وباغت المسلمين فالتفَّ عليهم من خلفهم ، وحمل ابن قميئة على النبي صلى الله عليه وآله وسلم ووصل اليه بضربة خفيفة فتخيل أنه قتله ، وصاح المشركون وإبليسهم: قتل محمد! فانهزم الصحابة وصدَّقوا الخبر ! وظهر نفاق بعضهم فنادى: ألا إن محمداً قد قتل فارجعوا إلى دينكم الأول ! واجتمع الفارُّون على الجبل عند صخرة ، وقرروا أن يوسطوا رئيس المنافقين في المدينة ، فيأخذ لهم الأمان من أبي سفيان !
وقد حاول عليٌّ عليه السلام أن يردَّهم قبل صعودهم الجبل لكن دون فائدة ، فوبخهم ! قال أبو واثلة يصف توبيخ علي عليه السلام للفارين كما في تفسير القمي:1/114: (فرأيت علياً كالليث يتقي الدر ، وإذ قد حمل كفاً من حصى فرمى به في وجوهنا ثم قال: شاهت الوجوه وقطَّت وبطَّت ولطَّت ، إلى أين تفرون إلى النار ؟! فلمْ نرجع ثم كرَّ علينا الثانية وبيده صفيحة يقطر منها الموت فقال: بايعتم ثم نكثتم ، فوالله لأنتم أولى بالقتل ممن قتل(أقتُل) ! فنظرت إلى عينيه كأنهما سليطان يتوقدان ناراً أوكالقدحين المملوين دماً ، فما ظننت إلاويأتي علينا كلنا ، فبادرت أنا إليه من بين أصحابي فقلت: يا أبا الحسن ، اللهَ اللهَ ، فإن العرب تكر وتفر وإن الكرة تنفي الفرة ، فكأنه استحيا فولى بوجهه عني ، فما زلت أسكن روعة فؤادي ، فوالله ما خرج ذلك الرعب من قلبي حتى الساعة . ونظر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى رجل من كبار المهاجرين قد ألقى ترسه خلف ظهره وهو في الهزيمة ، فناداه: يا صاحب الترس ألق ترسك ومُرَّ إلى النار ! فرمى بترسه فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : يا نسيبة خذي الترس فأخذت الترس وكانت تقاتل المشركين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم : لَمقام نسيبة أفضل من مقام فلان وفلان !
وسمعوا منادياً ينادي من السماء: لاسيف إلا ذو الفقار ولا فتى إلا علي ، فنزل جبرئيل على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هذه والله المواساة يا محمد ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم :لأني منه وهو مني . وقال جبرئيل: وأنا منكما). انتهى .
ونلاحظ في أحاديث أحُد كثرة الكذب من رواة الخلافة ، للدفاع عمن يحبونهم من الهاربين ، وتعسفهم في إثبات مناقب مكذوبة لهم !
من ذلك: أنهم ادعوا أن عمر هو الذي أجاب أبا سفيان بعد المعركة ، عندما افتخر أبو سفيان بهزيمة المسلمين وقال: أُعلُ هبل ! مع أن المعركة جرت في وادي أحد ، وكان أبوسفيان في أدنى الجبل قرب المعركة ، أما عمر فكان باعترافه بعيداً يتسلق الجبل وينزو كالأروى أوالأروية ، أي العنزة الجبلية ! (تاج العروس:10/159) ! وقد وصفهم الله تعالى بقوله: إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاتَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ ، فاستعمل فعل أصعد الرباعي ، الذي يدل على الإبعاد في الصعود! فكيف سمع عمر كلام أبي سفيان ، وصار ناطقاً باسم الإسلام والنبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وقد كان فاراً لا يلوي على شئ ، ولايسمع كلام النبي صلى الله عليه وآله وسلم وهو يناديه ويأمره بالرجوع ! وقد صحَّت عندهم الرواية أنه كان من المصدقين بقتل النبي صلى الله عليه وآله وسلم ، وكان يتشاور مع طلحة وأبي بكر وغيرهم من القرشيين كيف يقنعون أباسفيان بتوبتهم من الإسلام ورجوعهم الى دينهم الأول!
أما الذي أجاب أبا سفيان فكان علياً عليه السلام وليس عمر: ( فقال أبوسفيان وهو على الجبل: أُعْلُ هُبَل ! فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأميرالمؤمنين عليه السلام قل له: الله أعلى وأجل . فقال: يا علي إنه قد أنعم علينا ! فقال علي عليه السلام : بل الله أنعم علينا . ثم قال أبوسفيان: يا علي أسألك باللات والعزى هل قتل محمد؟ فقال له أمير المؤمنين عليه السلام : لعنك الله ولعن الله اللات والعزى معك ! والله ما قتل محمد صلى الله عليه وآله وسلم وهويسمع كلامك ! فقال: أنت أصدق ، لعن الله ابن قميئه زعم أنه قتل محمداً)! (تفسيرعلي بن إبراهيم:1/117) .
ويرد روايتهم أيضاً ، ما رواه البخاري عن مداواة فاطمة عليها السلام لجرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأن عمر وحزبه كانوا غائبين عن مكان النبي صلى الله عليه وآله وسلم !
ومن ذلك: ما ادعته عائشة لابن عمها طلحة التيمي ، أنه ثبت مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم ودافع عنه ولم يهرب ، وأنه أصيب ببضعة وستين جراحة ،كما أصيب علي عليه السلام !
راجع ابن كثير في النهاية:4/33 ! مع أن طلحة كان في الفارين ولم يرجع لاهو ولا أبو بكر ولا عمر لأنهم لم يحضروا صلاة النبي صلى الله عليه وآله وسلم على شهداء أحد !
وقد بلغ بهم الغلو في الدفاع عن الفارين أنهم اتهموا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بأنه فرَّ معهم ! ففي صحيح ابن حبان:15/436: (عن عبد الله بن الزبير عن أبيه قال: خرجنا مع رسول الله(ص)مُصْعدين في أحد ، فذهب رسول الله(ص)على ظهره لينهض على صخرة فلم يستطع ، فبرك طلحة بن عبيد الله تحته فصعد رسول الله (ص)على ظهره حتى جلس على الصخرة ! قال الزبير فسمعت رسول الله(ص) يقول: أوجب طلحة) . انتهى. أي استحق طلحة الجنة ، لأنه ساعد النبي صلى الله عليه وآله وسلم في فراره معهم بزعمهم !
وفي رواية البخاري في تاريخه:8/162 (وتبطَّنَهُ طلحة يومئذ فحمله ) !
وذكر المقريزي في إمتاع الأسماع:1/169: أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان بديناً وقد لبس يومها درعين ! (وقد حمله طلحة حين انتهى إلى الصخرة حتى ارتفع عليها) !!
وقال البخاري:4/ 212: (رأيت يد طلحة التي وقى بها النبي(ص) قد شلت) !!
وبهذا اخترعت مصادر الخلافة قضية إسمها: أوجب طلحة الجنة ! (راجع من باب المثال: مسند أحمد:1/165,والترمذي:3/ 119، و:5/307، والحاكم:3/25) !!
وكل ذلك مناقض لما رووه أنفسهم وصححوه عن أنس بن النضر أنه ( انتهى إلى عمر وطلحة في رجال من المهاجرين قد ألقوا بأيديهم ، فقال: ما يحبسكم . قالوا: قتل النبي! قال: فما تصنعون بالحياة بعده )؟! (النهاية:4/39 ، وغيرها) !
وما رووه في صمود النبي صلى الله عليه وآله وسلم في ساحة المعركة ، كما في سيرة ابن هشام: 3/370 ، و603 عن ابن عباس (قال: إن رسول الله(ص)لم يبلغ الدرجة المبنية في الشعب ). انتهى . والدرجة تقع في آخر الوادي للصاعد الى الجبل !!
فالنبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يترك موضعه في ساحة المعركة في وادي أحُد قرب المهراس ، ولا صعد على صخرة ولا شجرة ! والصحابة هم الذين فروا مصعدين في الجبل كما وصفهم الله تعالى ، أو هاربين الى المدينة !
قال الإمام الصادق عليه السلام : ( فلما دنت فاطمة عليها السلام من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ورأته قد شُج في وجهه وأدميَ فوه إدماءً ، صاحت وجعلت تمسح الدم وتقول: اشتد غضب الله على من أدمى وجه رسول الله ! وكان رسول الله يتناول في يده ما يسيل من الدم فيرميه في الهواء فلا يتراجع منه شئ !
قال الصادق عليه السلام : والله لو سقط منه شئ على الأرض لنزل العذاب .
قال أبان بن عثمان: حدثني بذلك عنه الصباح بن سيابة ، قال قلت: كسرت رباعيته كما يقوله هؤلاء؟ قال: لا والله ما قبضه الله إلا سليماً ، ولكنه شُجَّ في وجهه . قلتُ: فالغار في أحُد الذي يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم صار إليه ؟ قال: والله ما برح مكانه ، وقيل له: ألا تدعو عليهم؟ قال: اللهم اهد قومي).انتهى .( إعلام الورى:1/179، والبحار:20/96 ).
من جهة أخرى ، حاول رواة قريش طمس دور علي عليه السلام في أحد، فلم يشيدوا بمجئ فاطمة الزهراء عليها السلام الى المعركة ! ويظهر ذلك من تتبع نصوصهم ومقارنتها بما روته مصادر أهل البيت عليهم السلام . قال البخاري:3/227: (لما كسرت بيضة النبي (ص)على رأسه ، وأدميَ وجهه وكسرت رباعيته ، كان عليٌّ يختلف بالماء في المجن ، وكانت فاطمة تغسله ، فلما رأت الدم يزيد على الماء كثرة عمدت إلى حصير فأحرقتها ، وألصقتها على جرحه(يعني رمادها) فرقأ الدم). انتهى.
فغاية ما ذكروه عن مجئ فاطمة عليها السلام كيف غسلت جرح النبي صلى الله عليه وآله وسلم في وجهه وداوتْهُ ، لكن في حدود ما سمح به البخاري فقط !
قال القمي في تفسيره:1/124: (وخرجت فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم تعدو على قدميها ، حتى وافت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وقعدت بين يديه ، فكان إذا بكى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكت لبكائه وإذا انتحب انتحبت ، ونادى أبوسفيان موعدنا وموعدكم في عام قابل فتقبلُ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأمير المؤمنين عليه السلام قل: نعم ). انتهى.
وينبغي الإشارة الى أن بكاء النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك كان حباً وشكراً لفاطمة عليها السلام وكان بكاؤها تأثراً لوحدة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وجراحه !
أما علي عليه السلام فقد غمطوه حقه ، بل لم يسلم من ذمهم ! فقد زعموا أنه أعطى سيفه الى فاطمة عليهما السلام لتغسله من الدم مفتخراً بنفسه ، فوبخه النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقال له لست أحسن من غيرك ! وروى بعضهم أنه أعطاها سيفه في أحد فاعترف أن فاطمة كانت هناك ، وبعضهم زعم أنه أعطاها إياه عندما رجع الى المدينة !