اللهم صل على محمد وآل محمد
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
(يا مقلب القلوب والأبصار يا مدبّر الليل والنهار، يا محول الحول والأحوال، حوّل حالنا إلى أحسن حال).
إنّ الدنيا دار المتزاحمات والأضداد، ففيها الجميل والقبيح، والنور والظلام، والخير والشر، والحق والباطل، والليل والنهار، والعلم والجهل، والصالح والطالح، وهكذا... وفيها الحسن والسّيء.
والحَسن عبارة عن كل مبهج ومرغوب فيه، أي ما يوجب الإبتهاج والسرور، وترغب وتميل إليه، وهو على أقسام: فإنّه تارة حسن ومستحسن من جهة العقل أي ما حكم به العقل ويسمى بالحسن العقلي الذاتي، وأُخرى ما حسنّه وحكم به الشارع المقدس، يسمى بالحُسن الشرعي، وثالثة يستحسنه الهوى، ورابعة يكون مستحسناً من جهة الحواس الظاهرية. وإشتق من الحسن (الحسنة) وهو يعبر بها عن كل ما سِرَ من نعمة تصل إلى الإنسان في نفسه وبدنه وأحواله، والسيئة تضادها، وهما من الأجناس ذات الأنواع المختلفة ولكل نوع أصناف وأفراد، كالحيوان ذي الأنواع مثل الأسد والفرس والإنسان، وللإنسان أصناف كالغني والفقير وله مصاديق وأفراد كزيد وعمرو.
وذكر في القرآن الكريم بعض أنواع ومصاديق الحسن كقوله تعالى: ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ﴾ أي خصب وسعة وظفر ﴿وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ﴾ أي حدب وضيق وخيبة، وقوله: ﴿مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنْ اللَّهِ﴾أي من ثواب ﴿وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ﴾ أي من عقاب.
ثم الغرق بين الحسن والحسنة والحسنى: أن الحسن يقال في الأعيان والأحداث، وكذلك الحسنة إذا كانت وصفاً وإذا كانت دون الأعيان، والحسن أكثر ما يقال في محاورات الناس والعرف في المستحسن بالبصر، أي ما يراه البصر حسناً، فيقال: رجل حسن وإمرأة حسناء. وأكثر ما جاء في القرآن من الحسن فإنّه من جهة البصيرة وما يدرك بالقلب كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾ أي الأبعد من الشبهة والشكوك ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ أي كل حسنة ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً﴾ ﴿قُلْ هَلْ تَتَربَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ﴾.
والإحسان يقال على وجهين: أحدهما: الإنعام والإفضال على الغير فيقال: أحسن إلى فلان، والثاني: إ حسان في فعله، وذلك إذا علم علماً حسناً أو عمل عملاً حسناً، ومنه ما قاله أمير المؤمنين علي (ع) (الناس أبناء ما يحسنون) أي منسوبون إلى ما يعملون وما يعملونه من الأفعال الحسنة، والإحسان أعم من الإنعام.
قال الله تعالى: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ﴾ وقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾، فالإحسان فوق العدل، فإنّ العدل، هو: ان يعطي ما عليه ويأخذ ماله، فيضع الشيء في موضعه من دون إفراط وتفريط فهو الحد الوسط والفضيلة ولكن الإحسان أن يعطي أكثر مما عليه، ويأخذ أقلّ ممّا له، فهو من الجود والكرم والسخاء، فالإحسان زائد على العدل وكان العدل واجباً والإحسان تطوعّاً ومستحباً، ومنه قوله تعالى ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ (وأدام إليه بإحسان) ولذلك عظم الله تعالى ثواب المحسنين فقال تعالى ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ﴿مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾ ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ﴾.
ثم الحسن من الكلّي المشكك ذات المراتب الطولية والعرضية كالنور الحسّي مثل نور الشمس ونور الشمعة وما بينهما من المراتب النورية، فالقرآن الكريم تارة يستعمل (الحسن) وأخرى (الأحسن) وهو من التفضيل ومراتبه لا تعّد ولا تحصى، فإلى ربك المنتهى الحسن في ذاته وصفاته وأفعاله جلّ جلاله، وبذلك يتخلق العبد بأخلاق الله عز وجل، فيأتي بالحسن والأحسن، ثم سبحانه وتعالى تارة ينسب الحسن والأحسن إليه، وأخرى يطالب عبده أن يكون كذلك، وفي مقام الأحسن قال عز وجل: ﴿ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ﴾ ﴿صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ صِبْغَةً﴾ ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ﴾ ﴿وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ﴿وَلا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً﴾ ﴿اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ﴾ ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾.
فهو الحسن والأحسن سبحانه وتعالى، وطلب من عباده الحسن والأحسن كذلك فقال عز وجل: 1 ـ ﴿وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾ . 2 ـ ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾. 3 ـ ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾. 4 ـ ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. 5 ـ ﴿وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. 6 ـ ﴿وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. 7ـ ﴿وَلا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. 8 ـ ﴿وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ﴾. 9 ـ ﴿ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ﴾. 10ـ ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً﴾. 11ـ ﴿فَبَشِّرْ عِبَادِي *الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ﴾.
هذا غيض من فيض في الحَسن والأحسن على ضوء القرآن الكريم، وفي بيان وتفسير الآيات الكريمة نعتمد على نباهة القارئ الكريم وخلفيته الثقافية، فأقرء وفكّر ثم إبحث دائماً عن الأحسن في كل شيء وإعمل بما هو الأحسن والأمثل، وإعلم أن الحسن هو العدل وهو الواجب والفرض والأحسن هو الإنسان وهو المستحب وما يؤتى به تطوعاً وعن حبّ وعشق لله سبحانه، فالصلاة تامة بأجزاءها وشرائطها ومقدماتها من الحسن والأحسن فيها أن يؤتى بمستحباتها وترك مكروهاتها فإذا كانت الصلاة فرادى حسناً والأحسن أن يؤتى بها جماعة، ثم الجماعة فيها ما هو الأحسن، فالأحسن والأمثل فالأمثل وهكذا في كل العبادات والأعمال الصالحة والحسنات والخيرات، فسابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها الأرض والسموات، ومن الله التوفيق والتسديد وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
سماحة آية الله السيد عادل العلوي
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين