اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
في عصر عولمته يطغى فيها منتوج الأقوياء والعمالقة وتندثر فيها ثقافات المجتمعات وتمحى ذاكرتها، أقف متعجباً أمام انكسار ثقافات العالم عند باب السيدة فاطمة الزهراء في المغرب. باب انكسر عنده ما أدخله نزوح الأمويين من الأندلس، وتلاشى أمامه التطرف الموحدي وما اعقبه من شتى أصناف الحكم الجبري الذي جاء ليمحوا الوجود الزهرائي من المغرب فإنمحى.
كل الرموز قد فنيت وبقيت يد فاطمة تحملها الصدور وتعلق على الحيطان بل وتنقش بها شتى أنواع النعم. السيدة فاطمة الزهراء تحظى بمكانة خاصة عند المغاربة. مقامها وشرفها وقداستها وافضليتها أشياء تتحدى الزمن. ملايين الكتب والمجلدات المحلية والأجنبية تمجد شخصيات مختلفة من التاريخ الإسلامي تروج في المعارض والمكتبات لا تجد مقابلها كتيب واحد مخصص للزهراء. ولولا ذكر بعض العلماء والكتاب المغاربة الأصلاء لها على هامش بعض مؤلفاتهم لكاد ذكرها ينعدم في الكتب. لكن مع كل هذا، ظلت هي سيدة للعالمين عند المغاربة في ثقافتهم وملجئاً لهم في توسلهم وذكراً مباركاً في مناسباتهم. باب الزهراء في المغرب وأي باب! إذا إنفتح شعت فلا الشمس تحكيها ولا القمر. مظاهر فيض من وجدان الإنسان المغربي نقف عندها هنا تريك كيف طوت أم الزمان القرون عياءً وهي تنتشر.
في فهم الأنتروبومورفيزم الزهرائي
تجدر الإشارة إلى أن المقصود من الأنتروبومورفيزم هنا ليس معناه العام المرتبط بإعطاء صفات إنسانية لغير الإنسان. إن تعلق أنسنة بعض الظواهر الطبيعية بشخصية فاطمة الزهراء عند المغاربة تتطلب القول بزهرائيتها. ومنه جاء العنوان الفرعي حول الأنتروبومورفيزم الزهرائي. قوس الرحمان (المسمى كذلك قوس قزح) له إسم خاص عند المغاربة وهو "حزام لالة فاطمة الزهراء" بالدارجة، ويعني حزام السيدة فاطمة الزهراء. ويسمي المغاربة كذلك البرد الذي يتساقط من السماء بـ "دموع لالة فاطمة الزهراء". ولقد تعدى الأنتروبومورفيزم الزهرائي عند المغاربة الظواهر الطبيعية ليشمل الجمادات حيث تجد في المعتقد الشعبي المغربي حضوراً قوياً ليد فاطمة. تصنع كف مفتوحة من الفضة أو الفخار وتعلق على الجدران وعلى الصدور إعتقاداً بأنها تحمي من الشرور و"تلتقف" عين الحساد وتجلب البركة. هناك من يرى أن إستعمال تسمية "حزام لالة فاطمة الزهراء" جاء على خلفية النهي في بعض النصوص الإسلامية الشيعية والسنية عن قول "قوس قزح". لكن مع صعوبة الجزم بذلك تظهر لنا بعض التساؤلات المشروعة. لماذا الحزام وليس الدملج أو الخاتم؟ لا توجد نصوص تنهى عن تسمية البرد بالبرد، فلماذا سماه المغاربة بـ"دموع فاطمة"؟ لماذا الكف التي تصنع من المعدن والفخار ويسميها المغاربة بيد فاطمة شكلها هو شكل اليد المفتوحة وهي تدفع جسماً مسطحاً؟
إن القضية هنا تختلف عن الأنتروبومورفيزم الموجود في حكايات العبد ايسوب اليوناني. القضية هنا تحكي تبني بقايا الأدارسة الشيعة المغاربة للغة مشفرة ينقلون بها وقائع تاريخية حول حياة القديسة فاطمة الزهراء في زمن كان الانتساب إليها جينياً عقوبته الإعدام، فما بالك بالحديث عن مجريات حياتها! يحكي القاضي حشلاف الجزائري ما جرى على أبناء فاطمة بعد سقوط الدولة الإدريسية فقط لأنهم أبناء فاطمة فيقول في سلسلة الأصول المشهورة: " شئنهم من الاضطهاد ما سطر منه الشيء الكثير من ذلك مذبحة وادي الشرفاء في بني ملال، وذكر أنه قطع به أربعمائة رأس شريف. وهذا سبب تسميته بوادي الشرفاء وهذه المذبحة أدخلت الرعب في صدورهم، وذلك هو ما حملهم على الفرار من فاس وغيرها طلبا للنجاة بأنفسهم وتفرقوا في نواحي شتى من جهات المغرب". ويضيف القاضي الجزائري ناقلاً عن صاحب عجائب الأسفار في نفس المؤلف المشهور: “قال يصعب علي جدا تمييز الأشراف من بين البرابرة لطول مكثهم بين أظهرهم مع إخفاء أصلهم وأنسابهم ومصاهرتهم للبرابرة".
هكذا يثبت القول بأن أبناء فاطمة أخفوا ذكر أنسابهم ولم يهملوه بسبب وجود مشجرات إلى يومنا هذا تعد من أصح ما يوجد بين مشجرات الشرفاء في العالم. بنفس الطريقة التي أخفي فيها النسب العلوي ولم يهمل، اخفيت كذلك أخبار أجداد هذا النسب ولم تهمل وتم تداولها وتخليد وقائعها بإستعمال الرموز. من المعروف أن الحزام عند المرأة المغربية والذي يسمى كذلك ب"المضمة" حزام سميك مختلف عن الحزام النسوي في الثقافات الأخرى والذي تجده عادت أقل سمكاً. والحزام النسوي المغربي يغطي أكثر من نصف ضلعها. فإذا اضفنا يد فاطمة المفتوحة "الخميسة" وهي على شكل يد تدفع جسماً مسطحاً وكذلك دموعها المعبر عنها في وصف البرد فإننا نرى الصورة المشفرة التي رسمها الإنسان الشيعي المضطهد في المغرب لفاطمة وهي في جو من الحزن تحاول دفع الهجوم عليها لينتهي بإصابتها في ضلعها.
ومعلوم أن بعض آثار الضرب التي لا تفتح جلد الإنسان قد تسبب في ظهور ألوان مختلفة في البداية حيث تزداد قتامة لتنتهي في لون شديد الزرقة يميل إلى السواد. ومن هنا نرى ملاءمة تشبيه الضلع المكسور بقوس الرحمان. وإذا ما نظرنا إلى التاريخ فإننا نجد عدداً من المؤرخين يتحدث عن هجوم المتطرفين لخلافة أبي بكر على بيت فاطمة الزهراء التي رفضت البيعة حيث ينقلون كسر بابها عندما كانت تحاول دفعه وتعرضها لكسر على مستوى الضلع وأحداث مأساوية أخرى. (1)
ولعل هذا الموروث الشعبي في الثقافة المغربية البعيدة عن تأثيرات السياسة في المشرق يؤيد القائلين بمأساة الزهراء ويكذب اجتهادات النافين لهذه المأساة لأنه يستحيل تآمر مغاربة مطاردين محاصرين في الجبال قبل 1100 سنة مع مؤرخين بعيدين آلاف الكيلومترات في زمن التنقل على البهائم لاختلاق أو فبركة قصة حول الزهراء. إن حكاية الزهراء في المغرب صمدت لأن رموزها استعملت في وصف الطبيعة. فكلما ظهر القوس بعد المطر استذكرنا جرح فاطمة الزهراء وكلما سقط البرد استذكرنا دموعها وفي غياب القوس والبرد نستذكرها بيد معدنية معلقة على الصدور أو يد من الفخار تعتلي الجدران. وفي مواسم المولد النبوي في المغرب وغيرها لا زالت ترتفع يد فاطمة على الأعمدة التي تحمل الرايات المختلفة والتي يرفعها عادة المشاركون في مواكب الاحتفال.
لا تقتصر قضية الأنتروبومورفيزم الزهرائي على التخليد الرمزي للمأساة الفاطمية. بل يمتد إلى تخليد الاعتقاد بدور فاطمة الزهراء التكويني المرتبط بمقامها في المعتقد الديني. فتجد عند المغاربة مثلاً عين لالة فاطمة الزهراء. حيث تصنع عادة عين من الفخار تعلق على جدران البيوت والمحلات أو على المرآة الداخلية للسيارات -حديثاً - ترمز إلى كون عين فاطمة الزهراء ساهرة على حماية أحبابها.
إن إستعمال أشياء مثل العين وحدوة الفرس له أصول في الحضارات القديمة عند المصريين والفينيقيين والفرس والرومان يقول الخبير في علم الآثار رونالد ماشيس. (2) لكن إستعمال المغاربة للعين يترجم قيامهم بأسلمة بعض المعتقدات القديمة التي ربما دخلت إلى شمال المغرب حيث إستقر المطاردون من ذرية فاطمة الزهراء. والدليل على قيامهم بتفطيم الإعتقاد بالعين التي تحمي نسبتهم لها إلى الزهراء، والأهم من هذا وضعها داخل "الخميسة"، اليد التي تحدثنا عنها سابقاً، بحيث أصبحت يداً تتوسطها عين.
يتبع ....
1. ابن شهر اشوب، مناقب آل أبي طالب ج3 ص352.
2. Ronald T. Marchese (2005). The Fabric of Life: Cultural Transformations in Turkish Society. pp. 103–107.