اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم وأهلك أعدائهم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الأسرار الباطنية للفاتحة (2)
{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. عندما يقرأ المصلي الفاتحة، وإذا به يترقى ويترقى كأنه ركب طائرةً، حملته من الأرض وطارت به إلى أن وصل إلى سدرة المنتهى، فيتكلم مع رب العالمين ويقول: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.. التفاتٌ من الغيبةِ إلى الخطاب، كأنه الآن أصبح مؤهلاً ليُناجي رب العالمين بالخطاب، مع فارق التشبيه؛ كأنه عرجَ كالنبي الأعظم (ص).. فالنبيُ (ص) عرجَ من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثُمَ ذهبَ وذهب {فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى * فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى}.. المعراجُ مصغرهُ في الصلوات اليومية، فالصلاةُ معراج المؤمن.
فإذن، إن الإنسان في سورة الحمد يترقى، ولكن لا كل حمدٍ.. فمن آية {الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} إلى {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} آيات قليلة، ولكنْ بالسير الأنفسي السفر سريع، كسرعة البرق أو الضوء.. حيث أن سرعة الضوء ثلاثمائة ألف كيلومتر في الثانية الواحدة، أما سرعة الأرواح، فلا تُقاسُ بالضوءُ والصوت.. إنما بلحظات وإذا هو في مقعدِ صدقٍ عندَ مليكٍ مقتدر، يقول: إلهي!.. {إِيَّاكَ نَعْبُدُ}؛ أي الآن أحبُ أن أتحدث معكَ مباشرةً
لماذا لم يقل: (نعبدكَ) أو (أعبدك)، بل قال: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}؟.. كأنَ العبد يستقل عبادته؛ أي يا رب، من أنا وما عبادتي؟.. فرقٌ بين أن تخاطب الملك بـ(إياكَ أُطيع) وبين أن تقول: (إياكَ نطيع).. فالعبارة الأخيرة بصيغة الجمع، أي نحنُ جماعة، وأنا ضائع بين هؤلاء، ليست لي شخصية مستقلة، ولا آنية؛ فأنا عبدٌ مندكٌ في جموع المؤمنين.
{اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ}.. هو طلب للإيصال إلى المطلوب؛ أي اللهم!.. أوصلني إلى الهدف.. بخلاف أن تقول: اهدنا إلى الصراط: بمعنى أرنا الطريق.. وإراءة الطريق أمر، والإيصال إلى آخر الطريق والهدف أمر آخر. فالإنسان ليس عنده مشكلة مع الأحكام الشرعية، وذلك بفضل الرسائل العملية، ومراجعة العلماء. ولكن ماذا يعمل مع الموضوعات الخارجية؟.. فهو على مفترق طرق: هل يدرس هنا أو يذهب إلى الغرب؟.. هل يتزوج هذه الفتاة أو تلك؟.. هل يوالي هذا الإنسان أو ذاك؟.. هل يحب هذا العالم أو العالم الآخر؟.. أسئلة الاستفهام مليئة في حياتنا في كل شيء، فكل شيء له بدل، وكل شيء له ضد، ماذا نعمل؟.. بعض الأوقات يمشي الإنسان مشية معينة، وبعد عشرين سنة يجد نفسه في اتجاه معاكس (السائر على غير هدى، لا تزيده كثرة السير إلا بُعداً).
- إن العلاج في: {اهدِنَــــا الصِّرَاطَ المُستَقِيم}؛ أي يا رب أريد منك الهداية، لا في الأحكام، بل في الموضوعات..
{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.. هذه ختام سورة الحمد، وهو ختام مخيف، كما سيتبين..
أولا وقبل أن يبين القرآن الكريم بعض أوصاف الطريق المستقيم، يقول: {أَنعَمتَ عَلَيهِمْ} وآيات القرآن مليئة بالإشارات، والنكات الجميلة.. إن الذي يريد أن يستقيم في هذا الطريق، يحتاج إلى: المراقبة، والمحاسبة، والالتفات، والجهاد؛ وكل ذلك في محله.. ولكن يحتاج أيضا إلى إنعام، وتسديد من قبل الله عز وجل.
إن من أجلّ النعم نعمة الهداية، ونعمة الاستقامة.. فالله -عز وجل- إذا أراد أن يمنّ على عبد من عباده؛ يشرح صدره لهذا السبيل، ولهذا الطريق المستقيم.. لذا علينا أن ننظر إلى النعم نظرة صحيحة، فليست النعمة منحصرة بنعمة المال والبنون؛ هذه النعم الفانية.. إنما النعمة الكبرى، هي تلك النعمة الباقية أولا، والنعمة التي تحدد مصيرنا إلى الأبد وهي {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ}.
{غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ}.. إن الناس على قسمين: من لم يُنعم الله عليه؛ سقط وهوى: إما سقط وهوى؛ أي سقط من عين الله -عز وجل- فلعنه وغضب عليه، ومفسر هؤلاء باليهود المنكرين للحق.. وإما المغضوب عليه: هو ذلك الإنسان الجاحد، الذي استيقن قلبه وجحد بلسانه؛ فهو إنسان مغضوب عليه.. ومن يقوم لغضب رب العالمين؟!..
علينا أن لا نعمل يوما عملا يستوجب غضب رب العالمين {وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى}.. فالقرآن لم يعقب كيف هوى، وإلى متى يهوي؟.. وكيف يهوي؟.. إن هذا الإنسان في الدنيا يهوي ويهوي؛ ليستقر في قعر جهنم.. نعم، ونحن لا نعلم متى يحل هذا الغضب!.. وعليه، فإياك أن تحقر معصية، فلعلها هي المهلكة!.. وإياك أن تحقر طاعة، فلعلها هي المنجية!.. وإياك أن تحقر عبدا صالحا، فلعله هو الولي الذي يغضب رب العالمين لغضبه!..
{وَلاَ الضَّالِّينَ}؛ مفسر بالنصارى.. الضال: الإنسان التائه، والإنسان المقصر في أن يبحث عن الحق.. قد لا يكون من الذين حلّ عليهم الغضب؛ ولكنه تائه، ولا يعلم إلى أين يسير.. إن بعض الناس يعيش الحياة الدنيا في تيه وتردد وضلالة، وعندما يموت ينكشف له الغطاء؛ فيرى أن السبيل غير ما سلك.. ولهذا فإن من أسماء القيامة، يوم الحسرة.
إن سورة الحمد جزءان:
جزءٌ منه وصفٌ لعظمة الله -عز وجل- ورحمته، ومالكيته {بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ}.. وجزء منه خطاب مباشر مع الله -عز وجل- {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}.. انتقل الأمرُ من الوصف إلى الخطاب.