إيقاعات النقّارة تتجاوب بجلالها العميق في الصحن العتيق، وتتصاعد في فضاء الحضرة الملكوتيّة. والمنارات، فيما حول القبّة الذهبيّة المشرقة، تتألّق رشيقة ممشوقة في جوف الليل.
الصحن العتيق غاصّ بالزائرين الذين يدخلون فيه أفواجاً، مجذوبين بأشواق معنويّة ووجد قدسيّ. وبين الحين والآخر تُفلِت صيحات من لواعج القلوب يسري تَردادها في أرجاء باحة الصحن.
إنّها قاعدة في جوار النافذة الفولاذيّة مُسنِدةً رأسها إلى القضبان المتشابكة. وقعد إلى جنبها امرأة ورجل كبير السنّ.. كانا يرمقانها بنظرات تنطق بالأسى والانكسار. ثمّة حبل رفيع معقود طرف منه بعنقها، وموصول طرفه الآخر بمشبّك النافذة العريضة.. شأنها شأن عديدات من الصبايا والشابّات والمكتهلات اللائي جِئنَ إلى بيت الرضا عليه السّلام لائذات آملات.
مُطبِقة الأجفان كانت، تغطّي شعر رأسها بمنديل أزرق ينسدل على كتفيها المتهدّلتين. وإلى مسامعها تتناهى هتافات ضراعاتٍ حارّة وتَمتَمات راجية متوسّلة.. من أفواه أهل الكرب والبلوى.
مدّت يدها إلى طرف الحبل تتلمّسه.. كمَن يتوقع الحلّ المأمول في أيّة لحظة. ثمّ فتحت عينيها ونظرت إلى أمّها من وراء الدموع. وأبوها الذي بدا أشدّ ضَنىً من قبل.. كانت عيناه الواهنتان تحدّقان بما وراء قضبان النافذة مردّداً آيات من القرآن.
أغمضت عينيها صامتة، وقد ماج في داخلها اهتياج حائر. إنّها الآن في اليوم الرابع لهذا اللجوء الذي لم يكن منه بُدّ. وتذكّرت طبيب القلب الذي نصح أهلها في مدينتهم ( تربت حيدريّة ) بأخذها إلى مشهد للعلاج، كما تداعى إلى ذهنها اليوم الذي أُصيبت فيه بهذا الداء المخيف.
أصوات الجالسات قربها تنضح بانكسارٍ يَصدَع القلب، وبرجاءٍ يخرج من عذاباتٍ بعيدة الغور. اهتزّت من داخلها، وانسربت من تحت جفنيها قطرة سالت على الخدّ.
خطرت لها عيادة الدكتور الذي ذهبت إليه في مشهد. فحصها فحصاً دقيقاً. وكم كان ثقيلاً على قلبها أن تسمع جوابه الذي أطفأ البصيص الباقي من الأمل! أحالهم على طبيبٍ آخر. قال هذا الآخر وقد زمّ شفتيه:
ـ ممكن أن يشتدّ التوتّر وتتضاعف الأزمة.. وتزداد الأخطار!
واستراحت ذاكرتها إلى غروب يومٍ لاحت فيه قبّة الرضا عليه السّلام من بُعدٍ بعيد، وإلى النور الجذّاب الذي شعّ من القبّة فألغى بإضاءته أضواء كلّ المصابيح. كان نوراً يخترق أشدّ القلوب عتمة ويجعلها تقشعرّ.
* * *
ها هي ذي الآن غافية.. كأنّها في معزل عن العالم الأرضيّ من حولها لا تسمع له صوتاً ولا نأمة. تتصاعد مناجاتها في نومها من الداخل، وتنهلّ من عيونها الدموع. فاجأها وهي في مناجاة الباطن نور ثاقب يسطع حوالَيها. نور آتٍ من سماء الغيب.. هو من جنس عالم الملكوت. وتشبّع رأسها بعبير ماء الورد وعطر الجِنان. كان رقيقاً عذباً آسِراً، من غير عطور الدنيا.. ودّت لو يتشبّع به كلّ كينونتها وكلّ وجودها.
وفَلَق لونٌ أخضر شفّاف عمق النور. وراحت تتوضّح هذه الخضرة، فانتابتها دهشة إذ شاهدت سيّداً فارع الطول يبتسم لها ابتسامة تغلغلت منها إلى الأعماق، وقد اكتست قامته بعباءة خضراء، معتمراً عمامة خضراء أيضاً. وفي لمحة خاطفة تذكّرت أنّها عند النافذة الفولاذيّة قد جاءت مستغيثة بالإمام. سمعت نداء أدركت أنّه من موضعٍ غائر في صميم كيانها:
ـ اطلبي.. ليشفيكِ!
فَغَرت فمها وقد جرى دمعها على خدّيها وانعقد منها اللسان. أجهشت منتحبة نحيباً متفجّراً من كلّ ذرّات وجودها:
ـ نَجِّني يا مولاي!
سمعت صوتاً حنوناً يناغي القلب. كان صافياً وأنيساً كأنّما هو قادم من مكان طاهر قدسيّ بعيد:
ـ شفيتُكِ مرّة يا ابنتي، وهذه المرّة أيضاً أشفيك. أصنَعُ صَنيعاً لا تدركين معه كيف شَفيتِ!
وبيده النورانيّة ناولها الرجل ذو العباءة الخضراء حبّة طعام، فتناولت الحبّة بكلتا يديها، وجعلتها في فمها. وضعت كفّها على صدرها وانحَنَت بأدب، ثمّ مدّت يديها إلى السماء.. وما لبثت أن أفاقت من النوم.
كان الحبل محلولاً من حول عنقها. نهضت واقفة على قدمَيها. سمعت صيحة غير إراديّة انطلقت من حنجرة أمّها، ولمحت الناس ينثالون عليها من كلّ صوب.
أحاطت بها الجموع المستفهِمة، فاحتضنها أبوها وضمّها بقوة إلى صدره. وكانت دموع الوجد والغبطة تروي روضة وجنتيها.. وكان كثير من الناس حولها يبكون.
إنّها مغمورة الآن بضياءِ إشراقةٍ رضويّة حبيبة. كأنّ ظلمة الليل قد ولّت منهزمة، وكان القمر الفضيّ رائقاً يبثّ في السماء العريضة نور المحبّة والسلام.
( ترجمة وإعداد إبراهيم رفاعة، من مجلّة الحرم، ص 18 ـ 19، العدد 84 )