من المعروف تاريخياً أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) قد بذل كثيراً وحرص على الصدع برسالته الخلاّقة، وكانت الطائف هي أحد المراكز التي قصدها (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومن المعروف جيداً مبلغ المعاناة من جراء جهل أهل الطائف لهذا الداعية المحرر، فقد عاد النبي من الطائف وهو متعب ومخضب بالدم..
فلم يستجب لدعوته أحد قط، سوى رجل واحد تبع أثره ولحق به، لا يعرف غيره، ثمّ أنه اتصل به فأسلم وحسن إسلامه، ذلك هو قطب ثقيف، والد السيدة ليلى، التي لا يعرف ما إذا كانت مولودة أو غير مولودة في تلك الفترة.
أنه (1) ((عروة بن مسعود بن معتب بن مالك بن كعب بن عمرو بن سعد بن عوف بن ثقيف، واسمه قيس بن منبّه بن بكر بن هوزان بن عكرمة بن حصفة بن قيس عيلان الثقفي. أبو مسعود، وقيل أبو يعفور شهد صلح الحديبية )) وكني بأبي مرة..
فعروة بن مسعود الثقفي، زعيم من زعماء العرب، وسيد ممن ساد قومه فأحسن السيادة، وهو رابع أربعة من العرب سادوا قومهم، كما ورد عن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قول حول عروة، والثلاثة الآخرون، وهو قوله:
((أربعة سادة في الإسلام: بشر بن هلال العبدي - وعدي بن حاتم - وسراقة بن مالك المدلجي، وعروة بن مسعود الثقفي))(2).
وعلى هذا فان مركز عروة في المجتمع العربي، مركز رفيع مرموق، وذلك قبل أن يُسلم ويعلن إسلامه، بحيث بلغت منزلته عند العرب مبلغاً متزايداً حتى بالغوا به فتطرفوا إذ عظموه تعظيماً على حساب محمد ذي الخلق العظيم، وعظموه ليجعلوا منه شخصية تضاهي النبي الأعظم.. وهذا ما نص عليه القرآن الكريم في موقف معروف، إذ حكى عنهم ما قاله أحدهم - الوليد بن المغيرة - على سبيل المقارنة الفاشلة:
(قَالُوا لَوْلا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ)(3)
والمقصود من القريتين هو مكة والطائف، أما المقصود من العظيمين فيهما، فهو القائل نفسه- الوليد بن المغيرة- بمكة ويعني بالثاني عروة الثقفي بالطائف، كما عن قتادة وورد في الإصابة والاستيعاب ذلك..
أجل كان عروة شخصية مرموقة، لكنه أبى أن يزعم العظمة كغيره مثل ابن المغيرة وأمثاله، وكان شجاعاً وجريئاً بحيث أنه صمم على أن يدعو قومه للإسلام حالماً يعود إلى الطائف وهكذا كان .. فبعدما أسلم على يد الرسول الذي تبع أثره من الطائف وأدركه قبل دخول المدينة، وبعد أن تمكن الإسلام والإيمان من قلبه، استأذن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كي يرجع لهداية قومه.
((وسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يرجع إلى قومه بالإسلام، فقال يا رسول الله، أنا أحب إليهم من أبصارهم، وكان فيهم محبباً مطاعاً، فخرج يدعو قومه إلى الإسلام فأظهر دينه رجاء ألا يخالفوه لمنزلته فيهم، فلما أشرف على قومه(4). وقد دعاهم إلى دينه- رموه بالنبل من كل وجه فأصابه سهم فقتله-)).
ومن إيمانه ورضاه وقناعته بواجب الصدع بالرسالة مع تحمل دفع الثمن باهظاً أنه أجاب بجواب واضح اليقين حينما سألوه ((وقيل لعروة: ما ترى في دمك؟ قال : كرامة أكرمني الله بها، وشهادة ساقها الله إليّ، فليس فيّ إلاّ ما في الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) قبل أن يرتحل عنكم))(5).
هذا وكان من حسن الهيئة كالمسيح عيسى: ((وكان عروة يُشبَّه بالمسيح عليه السلام في صورته))(6). وكان من حسن العاقبة والمصير كما نسب للنبي(صلى الله عليه وآله وسلم) قوله: ((ان مثله في قومه مثل صاحب يس من قومه(7) دعا قومه إلى الله فقتلوه))(8).
فضلاً عن ذلك، قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) : ((رأيت عيسى ابن مريم، فاذا أقرب من رأيت به شبهاً عروة بن مسعود))(9).
يتجلى من ذلك أن هذا الصحابي الجليل كان أثيراً عند النبي(صلى الله عليه وآله وسلم)، وله في نفسه موقع ومكانة .. هذا وان التاريخ لم يورد عنه ما يسيء إليه أو يتهمه، فهو رجل نزيه السمعة صاحب مكانة وسامي الرفعة.. كما أنه شخصية عظيمة قياساً لشخصيات القبائل الأُخرى - والله مطلق العظمة - .
أسلم في السنة التاسعة من الهجرة - بعيد رجوع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من رحلته الرسالية إلى الطائف - وقتل عروة الثقفي أثناء إعلانه دينه ودعوته، وكان يتأهب لأداء فريضة الصلاة كما جاء في (نفس المهموم).
أما كلمات الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) التي وردت بصدد عروة، فهي لعمرك من أروع أوسمة التقدير التي منحها الرسول القائد إلى جنده الدعاة الصامدين الصابرين أوسمة الشرف المذخور والفخر الخالد في الدنيا والآخرة.. وأهم وسام - بعد إعلان أنه شبيه النبي عيسى (عليه السلام) - هو أنه نظير النبي ياسين في قومه..
ولا نعتقد أن الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) يشبه بياسين لمجرد أنه دعا قومه فقتلوه كياسين (عليه السلام) .. وإنما لأنه رجل دعوة على بينة من دينه ورجل إيمان وتقى وإخلاص ويقين، ولأنه بلغ من شرف الإيمان ما منحه شرف الشهادة، ثم شرف الإشادة به على لسان الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم).
ذلك هو والد السيدة ليلى، المجاهد الشهيد عروة بن مسعود الثقفي رضوان الله عليه.
وقد ترك في نفس ابنته ليلى آثار الهدى والإيمان والاستقامة على الدين الحنيف.. وفي أي سن كانت الفتاة ليلى فانها ولا شك قد أحست بفقد والدها الحبيب، وكلما نضجت وكبرت شعرت بأن أباها مضى ضحية قضية سماوية مقدسة، حتى بلغت اليقين بأنه صرع وقتل لا كمن صرع وقتل من العرب وأشراف القبائل، لقد راح والدها شهيداً وقرباناً لله من أجل رسالته، وليس قتيلاً أثناء صراع قبلي رخيص..
وعليه فقد كانت أول نكبة أصابت قلبها، هي هذه الحادثة الشديدة الوقع على الفتيات اللواتي يصعب عليهن الاستغناء عن حنان الأبوة وصل الوالد المؤمن الشجاع.. ثم توالت عليها النكبات - بعد أن أضحت ليلى أحد أعضاء هيئة نساء البيت المحمدي الكريم - إذ راحت تعيش أجواء بيت النبوة والرسالة صاحب القوة والأصالة، في مواصلة الصدع بمقررات القرآن ومبادئ الإسلام، حتى ختمت ليلى حياتها وهي صابرة صامدة محتسبة قد تحملت ألوان الأسى والألم وقدمت لرسالة الإسلام ما أنجبت من صالحين وطاهرين.
أي أن استشهاد والدها ليس مجرد أول نكبة، بل أول درس على ضرورة الصمود ووجوب الصبر لمواصلة العمل من قبل المؤمن والمؤمنة، البنت والزوجة، وأول تجربة للسيدة ليلى على تحمل شدة وطأة نتائج الدعوة ودفع ثمن العمل لدين الله سبحانه وتعالى.
أجل تلك هي ليلى الثقفية والدة علي الأكبر، التي لم تستمد قيمتها من أمها ولم تستمد كرامتها ومنزلتها حتى من أبيها، وإنما استمدت رقيها من تقواها وانتمائها ثم انتسابها للأسرة المحمدية المقدسة، ولارتباطها الوشيج بشخص الإمام العظيم أبي عبد الله الحسين (عليه السلام) وكفاها بذلك فخراً حين تفتخرُ ..
____________________
1- أنظر الاستيعاب في معرفة الأصحاب ـ لابن عبد البر ، ق 3 ج 3 ص 1066 ـ 1067 طبعة مصر.
2- انظر نفس المهموم للشيخ القمي .
3- سورة الزخرف : 31.
4- ويلفظ : فلما أشرف عليه قومه راجع الاستيعاب.
5- الاستيعاب ، والإصابة ج 3 / ص 112 ـ 113 المطبوع على هامش الاستيعاب .
6- نفس المصدرين .
7- الاستيعاب ، والإصابة .
8- ـ نفس المهموم / للقمي .
9- نفس المهموم.
م ن ق و ل