بسم الله الرحمن الرحيم
(جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ، اعْلَمُواْ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ، مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ، قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ يَا أُولِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ، قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ) [1].
تحدثت الآيات السابقة عن حرمة صيد البر واحكام أخرى متعلقة بالاحرام وبالحرم نفسه اذ تعلق بعض ذلك بحماية البيئة كما مر ذكره.
الكعبة رمز الوحدة الانسانية:
(جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس والشهر الحرام)
كان في الجاهلية أكثر من كعبة صنعوها لأنفسهم فهدمها النبي محمد (ص) لتبقى الكعبة ذلك الرمز التوحيدي والمقصود به (البيت الحرام) البيت الذي حُرّم فيه القتال دفعاً لأسباب الفوضى والقلق وعدم الاستقرار وحين يكون آمناً مكاناً (البيت الحرام) وزماناً (والشهر الحرام) وهي (ذو القعدة وذو الحجة ومحرم ورجب)، فهي أشهر يحرم فيها القتال.
كل ذلك يعني ان هذا الأمن المكاني والزماني يمثل منطلقاً للبناء والتنمية بعد ان يكون ملاذاً يلوذ به الضعفاء ومستقراً يأمن فيه المستثمرون وغيرهم على ما يملكون وفي هذه الاجواء من الاطمئنان والهدوء والسكينة تنطلق التنمية والبناء وتطوير القدرات وتبقى الكعبة المشرفة رمزاً مقدساً يحجّ اليها الجميع متوحّدين في ظلالها بكلمة (لا إله إلا الله).
وبذلك تصبح قياماً للناس وليس للمسلمين فقط فهي صلاح ومعاش للناس يقيمون بها أمور دينهم ودنياهم وهذا بُعد يجب ان لا يغفله أحد.
وكذلك الهدي الذي يهديه الحاج ليقدمه قرباناً لله سبحانه والقلائد وهي ما يوضع عليها من العلائم التي توضع قلادة عليها بأنها قربان لله سبحانه، هذه أيضاً يجب ان لا يمسها أذى من أحد فهي في حرم الله آمنة، وكل ذلك من أجل ان يعلم الناس والمؤمنون ان هذه الاحكام المشرعة من الله سبحانه فيها مصالح العباد وهي معلومة مكشوفة لديه سبحانه فهذا التشريع من أجل سعادة الانسان وان لم يدرك حكمته.
ثم تغلظ الآية اللاحقة بأن الله سبحانه شديد العقاب لمن يخالف وان الله غفور رحيم لمن يطيع ما أداه رسول الله (ص) وما جاء به من كتاب خالد من الله سبحانه.
البلاغ النبوي:
(ما على الرسول إلا البلاغ)
اضطلع الرسول (ص) كبقية الانبياء والرسل الكرام (ع) بأبلاغ وأداء ما تلقّاه من الوحي وهذا هو فلسفة النبوة اما قبول الناس وهدايتهم فليس من شأنه بمعنى انه غير ملزم بذلك
(وما أنت عليهم بوكيل) [2].
وبعد ذلك ينطلق تهديد إلهي في الآية المباركة
(والله يعلم ما تبدون وما تكتمون)
فالله سبحانه لا يخفى عليه شيء من أعمال العباد ولا حتى نياتهم وأعمالهم التي يكتمونها فلا عذر لأحدٍ في ان يفرّط في جنب الله.
قاعدة الخبيث والطيب:
قل يا محمد (ص): لا يستوي الخبيث والطيب، فلا الحرام كالحلال ولا الرديء كالجيد ولا العصيان كالطاعة، وكذلك كل اعمال العباد ومكاسبهم وعقائدهم والمعارف والعلوم أيضاً.
فالخبث أو الطيب يتعلقان بالأمور المادية كالخمر والميسر واللحوم الحرام وغيرها من النجاسات كما يتعلقان في الامور المعنوية كالعقائد والنظريات والمعارف فالالحاد ونظرياته خبائث اما التوحيد ومسالكه فهي طيبة
(لا يستوي الخبيث والطيب).
قيد الكثرة:
(ولو أعجبك كثرة الخبيث)
أيها الانسان اذا وقعت عينك وصغت أذنك لهذا الخبيث لكثرته من حولك فلا يكون ذلك سبباً لأعجابك واندهاشك فالطيب القليل خير وأفضل من الخبيث الكثير. فالطيب فيه نفع وجمالية
(والبلد الطيب يخرج نباته بأذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكدا) [3].
ومن أجل ان تعالج الآية الموقف وتدفع باتجاه رفض الخبيث وعدم الاكتراث به وظّفت التقوى طريقاً لامتثال الأوامر واجتناب النواهي وتعلقت التقوى هنا بمخاطبيها من العقلاء أولى الالباب من أجل الفلاح والفوز في الدارين
(فاتقوا الله يا أولي الألباب لعلكم تفلحون)
حيث لا تكون التقوى إلا عند من يعقل حكمة خلقه وفلسفة وجوده في هذه الدنيا والأمل الذي يعيشه لعاقبته وآخرته، فالتقوى تتركب على تعقّل وليس على جهل، وإلا لما خاطبت الآية أولي الألباب وحمّلتهم هذه المسؤولية.
الاسئلة التي لا طائل تحتها:
تعليم إلهي في أدب السؤال وأهميته للذين آمنوا ان لا يسألوا اسئلة لا طائل تحتها ولا ينالهم عناد ولا لجاج حين يسألون فهناك أشياء لا حاجة بها فقد تحزنكم معرفتها ان ظهرت (إنْ تبد لكم تسؤكم)
لا سيما في عصر نزول القرآن الكريم فقد كان القرآن يفضح البعض ويكرم البعض الآخر من الاشخاص والافعال والمواقف وغيرها فلا حاجة لتلك اللجاجة في السؤال كما سئل رسول الله (ص) بعد ان
قال (ص): (ان الله كتب عليكم الحج)
فقال أحدهم: (أفي كل عام يا رسول الله)؟
فأعرض الرسول (ص) عن أجابته ثلاثاً ثم قال (ص):
(لو قلت لوجبت ولو وجبت ما استطعتم ولو تركتم لكفرتم فاتركوني كما تركتكم).
وهذا يذكرنا بمجموعة من بني اسرائيل الذي شددوا في ذبح البقرة فشدّد الله عليهم. وليس بعيداً ان تنطبق الحالة على اتباع عيسى (ع) حين طلبوا مائدة من السماء ثم عصوا بعد نزول المائدة
(قد سألها قوم من قبلكم ثم أصبحوا بها كافرين)
أي عاصين أو كافرين حقاً بسبب تلك اللجاجة والاسئلة التي هم ليسوا بحاجتها لأنهم لما أُعطوها وفرضت عليهم كفروا بها.
فبعض الاسئلة تؤدي الى كفر السائل وهي مضيعة للوقت ولا تخدم الاتجاه العام في التفكير
ومن أجل ان لا تفسد أبواب العودة والرجوع الى الله ذكرت الآية المباركة (عفا الله عنها) أي عن المسائل التي اشارت اليها الاشياء والتي لا ضرورة فيها والله واسع المغفرة عظيم الفضل حليم بعباده من أجل هدايتهم. هذا الاتجاه في النهي عن السؤال لا يمنع من السؤال الصحيح الذي هو في طريق بناء عقيدة الانسان فقد دعا القرآن الكريم الى النوع الثاني من هذه الاسئلة
فقال تعالى: (فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون) [4]
____________________
[1] - سورة المائدة: 97-102.
[2] - سورة الانعام: 107.
[3] - سورة الاعراف: 58.
[4] - سورة النحل: 43.
دروس في تفسير القرآن الكريم/الدكتور علي رمضان الأوسي