كنت هناك على الطريق متجهاً نحو كربلاء، "ياسيدي الحسين (ع) جئنا لكربلاء كي نراك"!،
وقد عزمت ان اكون كما يريد مولاي مني ان اكون، عاهدتُ الخطوة ان اهذب نفسي هذا العام واجعل الطريق رقيباً عليّ في نبذ كل ما يشوه اعمالي من غيبة وسوء خلق، فلطالما كانت كل محاولاتي تُختتم بالفشل في صقل نفسي وتغليفها بالتقوى..
لكنني هذه المرة سلكت الطريق الاقصر الذي يعود بي نحو الطريق الاقوم سمعت كثيراً عن طريق كربلاء.. اسراره.. ومعاجزه!.
وكيف يمكن للحوائج ان تقضى ببركاته باسهل ما يمكن لكن حقيقة كان يخالجني بعض الشك في نفسي لان ابتلائي قلبيّ فلا اكف عن المعاصي مهما حاولت! نفسي تهفو لها هكذا..!
ولكني ورغم كل شيء احب الحسين (ع)، احب كل شي يرتبط به! فكان الانطلاق من الازقة الضيقة في النجف التي تفضي الى الطريق العام للسائرين، حملت معي حقيبتي الصغيرة التي تحوي لوازمي في هذه الرحلة الملكوتية وانطلقت مع الزائرين، هذه اول مرة اكون من ضمنهم!.
واخوض تلك التجربة المقدسة التي ايقنت لاحقاً انني قضيت بالتسويف والآمال عمري اذ مضى دون ان اتزود من الخطوات في طريق الاربعين، فبينما انا منهمك في التحديق في معالم المواكب والتفاني في الخدمة وركب العشاق وتعدد الاصناف والاعمار اذ سقطت على وجهي لانني تعثرت بشيء ما! وعندما وقفت تصاعد لهيب الغضب لان افرغ فيمن اسقطني شحنات الغضب التي تصاعدت فيَّ فرأيت الذي اسقطني رجل في الاربعين من عمره صاحب موكب ولانه كان يرحب بالزوار القادمين من الجانب الاخر لم ينتبه لي، فقبل ان تتهادر من لساني كلمات التوبيخ له رأيته يقبل رأسي ويحتضنني وينفض التراب الذي صار على ملابسي وهو يعتذر بكل عبارات الاعتذار مني ويطلب السماح وكأنه عبدٌ في حضرة سيده ولم يبالِ ان عمري لم يصل الى الثلاثين بعد..
فأطرقت خجلاً كيف لم اتمالك غضبي واتخذت الغضب سجية ومدعاة اوبخ بها من يتسبب لي بأذى في سالف الايام بقصد او دون قصد، فقلت له: لاعليك ياعم انك لم تقصد وقبلت رأسه ومضيت وانا استغفر ربي واسأله بالحسين ان يكبح نوازعي على الاقل في هذا الطريق مراعاة لقدسيته.
واكملت الرحلة محدقاً بكل تفاصيلها فاذا بي المح شاباً عليه الهيبة والسكينة يدعو الناس لتناول الطعام في فضاء منزله وكانت كل ابواب الدار والحجر الداخلية مشرعة والزوار تدخل بواحدة وتخرج من الاخرى، الكل بتصرف وكأن الدار داره فذهلت اذا انني اول مرة ارى هكذا حالة في حياتي،
فكيف يسمح احد للناس ان يعبثوا بداره وخصوصاً ان كان بنائه فخم مثل هذا الذي امامي!.
فلم يدعني فضولي اذهب بل توقفت وتقدمت نحوه وسحبته الى احد الزوايا
وسألته هل هذه دارك؟!
قال بل هو دارٌ لأبي.. وانا فيه الآن اخدم الزوار.
_كيف تستطيع ان تقدم دارك للزوار بكل حب ولاتكترث لما يجري فيه".
قال: "لاننا نعطي لمن اعطانا كل شيء".
لم نكن نملك قبل سنوات اي قطعة ارض وكان ابي مستأجرا لهذا الدار الذي هو على طريق الزوار وعندما اقبل الاربعين فتحه لخدمة الزائرين ونذر اذا حصل على بيت بأسمه سيكون في محرم وصفر بإسم الزائرين ولخدمتهم.
فببركة الحسين زاد رزق والدي حتى اشترى هذا الدار الذي كان مستأجرا له وبتوالي السنين وسعه اكثر فاكثر وبناه باحسن مايمكن، فصمتُ وتعلمت منه درساً لربما ما كنت تعلمته مدى العمر من غيره..
وعندما ودعته اذ لحظت امرأة تحمل بين يديها لوازم طفلها الرضيع وهي منهمكة مرة بحمل رضيعها ومره بحمل الاشياء التي تتساقط منها كل برهة، ففكرت في داخلي ان حقيبتي كبيرة ولوازمي قليلة، فافرغتها وقدمت لها حقيبتي في سبيل الحسين لاريحها من المشقة التي فيها، وهذه اول مرة في حياتي اقدم شيئا دون مقابل.
فعندما اعطيتها حقيبتي ومضيت شعرت براحة نفسية لم اشعر بها قط وكيف ان للعطاء دون مقابل شعور أخاذ يعلمه لنا خدام الحسين (ع)..
فاكملت المسير وانا اتعلم الدروس واحداً بعد الآخر وعلمت انني طرقت الباب الصحيح حين اخترت هذا الدرب لتهذيب النفس، حتى صار الظهر وارتفع صوت الاذان يدعو الناس للصلاة، فانتهزتها فرصة لتوثيق ما كنت ادعو اليه وهو ان الزوار لايصلون، وان الحسين عِبرة قبل ان يكون عَبرة وانه استشهد لاجل الصلاة، وكانت هذه مناشداتي على صفحتي الخاصة في الفيس بوك.
فأخرجت هاتفي لالتقط صورة للطريق فلما فتحت الكاميرا وجدت الكاميرا الامامية مفتوحة ودهشت حينما رأيتني وحدي في الصورة والطريق يكاد يخلو من الزائرين خلا الذين يدعون للصلاة داخل مواكبهم!.
كنت انا الوحيد الذي لم ينصرف للصلاة فخجلت من نفسي واطرقت ثم عاهدت نفسي ان اكف عن صب اتهاماتي المسموعة فقط والغير مرئية على من هم اتقى مني..
هكذا كانت رحلتي في غاية التشويق والتعليم، وحين وصلتُ كربلاء سجدتُ على اعتابها فسارت في عروقي قشعريرة عجيبة وتطافر الدمع من عيني وكأني لاول مره ابصر كربلاء بالبصيرة، وشعرت ان مسام جسدي تفتحت وخرج من قلبي خلالها كل ما يكدرني، كأنني ولدت من جديد بفضل من الله وطريق الاربعين..