لما كانت سيدة النساء فاطمة الزهراء (عليها السلام) واسطة العقد بين شمس النبوة وقمر الإمامة انحدر من نسلها الطاهر أحد عشر كوكباً، يمثّلون ولاية الله في أرضه، وخلافة رسول الله على العباد، وأئمة الهدى في الدين (الذين انتجبهم الله لنوره (بنوره)، وأيّدهم بروحه، ورضيهم خلفاء في أرضه، حججاً على بريّته، وأنصاراً لدينه، وحفظة لسرّه، وخزنة لعلمه، ومستودعاً لحكمته، وتراجمة لوحيه، وأركاناً لتوحيده، وشهداء على خلقه، وأعلاماً لعباده، ومناراً في بلاده، وأدلاّء على صراطه، (إذ) عصمهم الله من الزّلل، وآمنهم من الفتن، وطهّرهم من الدّنس، وأذهب عـــنهم الرجس، وطهّرهـــم تطهيـــراً.
وإلى هؤلاء الأئمة الاثني عشر (عليهم السلام) ينتمي الشيعة الإمامية في العقدية والفقه والأخلاق، واليهم ينتسبون، وبهم يعرفون، وأصبح اسم الاثني عشرية علماً عليهم.
وإنما اعتقد الشيعة الإمامية بإمامة هؤلاء لأنهم أحد الثقلين، وأعدال الكتاب، بل هم حقيقة الكتاب ووجوده العيني، وورّاث علم الرسول (صلّى الله عليه وآله).
وقد قامت الأدلّة العامة والخاصّة على وجوب الاعتقاد بإمامتهم، وضرورة الالتزام بأوامرهم ونواهيهم، والسير على خطاهم، وتفصيل ذلك في الكتب الكلامية التي وضعها علماء الشيعة الإمامية، وتناولوا فيها مسألة الإمامة بأدق تفاصيلها، ومختلف أبعادها وما يترتب عليها من اللوازم.
ويأتي ـ بحسب تسلسل أئمة أهل البيت (عليهم السلام) ـ الإمام موسى بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السلام)، ليكون سابع أئمة الهدى (عليهم السلام) من حيث الترتيب في تولّي منصب الإمامة الخطير.
وقد حفلت حياة هذا الإمام العظيم بما يقصر البيان عن وصفه، فإنّه أحد أئمة الحق والهدى، وهو خير أهل الأرض، وأجلّهم قدراً، وأرفعهم مقاماً، وهو المنصوص عليه بالإمامة من بعد أبيه الإمام الصادق (عليه السلام) الذي يعتبر ـ تأريخياً ـ واضع حجر الأساس لمعالم الفكر الإمامي على الصعيدين الاعتقادي والفقهي.
وإنما قلنا إن الإمام الصادق (عليه السلام) هو واضع حجر الأساس لمعالم الفكر الإمامي وقيّدناه بالناحية التاريخية لأنّ عهده (عليه السلام) هو العهد الذي نشأت فيه فكرة المذاهب الفقهيّة المختلفة، وإلا فإن الفكر الإمامي ـ بعقيدته وفقهه وأخلاقه ـ يقترن باسم أمير المؤمنين (عليه السلام) يوم نصّ عليه النبي (صلّى الله عليه وآله) بالإمامة، وبايعه المسلمون قاطبة في غدير خم، في الحادثة المشهورة التي خلّدها القرآن الكريم في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ..).
ولم تكن مسألة الإمامة شيئاً آخر منفصلاً عن تعاليم النبي (صلّى الله عليه وآله) وما جاء به، ولكنّ الأحداث التي أعقبت وفاة النبي (صلّى الله عليه وآله) ألقت الستار على هذه القضية ولم تكن الظروف آنئذ لتساعد على إظهارها، وكانت نظرة أمير المؤمنين (عليه السلام) تقتضي بالتزام الصمت برهة من الزمن ليتأكد للناس أنهم أخطأوا الطريق حيث عدلوا عنه إلى غيره، ولذا لم يكن صمت أبي الحسن (عليه السلام) إعراضاً وانصرافاً، بل كان صمت الحكيم البصير العالم بحقائق الأمور وقد كان (عليه السلام) على يقين مما ستؤول إليه الأمور.
حتى إذا ألقى الزمام بيده سعى في أن يعيد الأمة إلى رشدها وينبههم على فداحة الخطأ الذي ارتكبوه، والآثار السيئة التي نجمت عن ذلك، لم يفته أن يبيّن لهم أن قيامه بالمهمة لم يكن طمعاً في حطام، أو رغبة في سلطان، وإنّما من أجل تحقيق أراد الله والرسول، وإحقاق الحق وإزهاق الباطل.
وقد كانت المهمة صعبة جداً، إلى حد اضطرّته للدخول مع مناوئيه في صراعات دمويّة في حروب ثلاث طاحنة، أعاقته كثيراً عن أداء مهمته كما يريد هو ويريد الله ورسوله، ذلك لأنّ الذين ترعرعوا في العهود السابقة ورسخت جذورهم فيها واستطالت فروعهم واستمروا الحياة الناعمة المترفة، لم يرق لهم المنهج الجديد الذي وضعه أبو الحسن (عليه السلام) حيث يجعلهم فيه متساوين مع سائر الناس، ويحملهم فيه على المحجّة البيضاء، وأن قيمهم ـ في نظر الحق ـ هي مقدار ما يحسنون، ولم يكن منهج علي (عليه السلام) جديداً بقدر ما هو إعادة إلى عهد النبي (صلّى الله عليه وآله) وسيرته مع الناس، ولكن حبّ الدنيا والطمع في حطامها أدّى بأولئك الذين كانوا ينادون بعلي ويهتفون باسمه، إلى التنكّر له ومحاربته، وقد أخطأوا التقدير لأنّهم ظنّوا أن علياً (عليه السلام) سيبقي لهم امتيازاتهم التي ظفروا بها في العهود السابقة، ولكنّهم فوجئوا بأنه لا يداهن على حساب الدين وحقوق الناس، ولن يتنازل عن مبادئه مهما آلت إليه الأمور (ومن ضاق عليه العدل، فالجور عليه أضيق) وهو على منهاج رسول الله (صلّى الله عليه وآله) في كل أحواله.
وقد كان (عليه السلام) على التفات إلى هذا الأمر، فإنّهم لما طلبوا أن يبايعوه بالخلافة أجابهم بقوله: دعوني والتمسوا غيري، فإنّا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإن الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغ إلى قول القائل، وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلّي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم منّي أميراً.
وما ذلك إلا لعلمه بواقع الحال ومآله.
هذا عدا الفئات الأخرى التي كانت تعيش الانحراف الذاتي وتشكّل خطاً موازياً لخط علي (عليه السلام) وأهل بيته في خلاف تاريخي عميق الجذور.
وهكذا توالت الأحداث مريرة مؤلمة، ومن خلالها كان تحديد معالم الخط الذي سار عليه أهل البيت (عليهم السلام)، يتوارثه الأبناء عن الآباء عن رسول الله (صلّى الله عليه وآله)، وكانوا يمثّلون الحق والهدى والصلاح.
حتى إذا كان زمان الإمام الصادق (عليه السلام) برزت الفوارق واضحة، وساعد على ذلك الهدوء النسبي في سلسلة المعاناة، واستطاع الإمام الصادق (عليه السلام) في هذه الظروف أن يرفد الفكر الإمامي بشيء من علمه، ويغدق عليه من عطائه، ولا سيّما أنه برزت على الساحة الإسلامية الأفكار والآراء المختلفة، فتصدّى الإمام الصادق (عليه السلام) إليها ردّاً أو تصحيحاً فتحدّدت معالم المنهج الذي أتّبعه أهل البيت (عليهم السلام) بشكل واضح، الأمر الذي أدى إلى نسبة مذهب أهل البيت (عليهم السلام) إليه.
ولكن ما إن استقرّت الأوضاع السياسية إثر التحوّل الإداري الأموي إلى العباسي حتى عادت المعاناة بأبشع صورها وشتّى أشكالها، وجاء بنو العباس ليكملوا ما بدأه الأمويون من مسلسل الإبادة لأهل البيت (عليهم السلام) بالأساليب المختلفة.
ويحدثنا التاريخ بفواجع الخطوب وفوادح المآسي التي لقيها أهل البيت (عليهم السلام) ـ على أيدي بني عمّهم من حملات الإبادة المسعورة ـ وكلّ من ينتمي إليهم بسبب.
وفي هذه الظروف العصيبة عاش الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، وشاهد ما كان يعانيه أبوه وشيعته من المآسي والآلام، ولسنا في مقام التاريخ لهذه الفترة، وإلا لأسمعناك ما ينصدع به الصّخر وتنشقّ الأرض وتخرّ له الجبال، وحسبنا هذا الإجمال، وإن شئت التفصيل فعليك بالدراسات التي تناولت حياة الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام) وسنشير إلى بعض الروايات التي أرّخت تلك الفترة الحرجة.
أقول: ينتمي السادة الموسويون إلى جدهم الأكبر موسى بن جعفر (عليهما السلام)، وهم أكثر السادة انتشاراً في الأرض، وإنما عبّر عنهم بالسيادة لانتهاء سلسلة أنسابهم إلى رسول الله (صلّى الله عليه وآله) سيد ولد آدم، والى الإمام موسى بن جعفر (عليهما السلام) ينتهي نسب السادة النقويين، وهم العلويون الذين ينحدرون من سلالة الإمام علي الهادي (عليه السلام)، وهكذا الرضويون، وهم الذين ينحدرون من سلالة الإمام الرضا (عليه السلام)، كما ينتهي نسب السادة الحسينيون إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، وأما السادة الحسنيّون فهم الذين ينتهي نسبهم إلى الإمام الحسن المجتبى (عليه السلام)، ولكن اصطلح علماء النسب على النسبة إلى الإمام المعصوم الذي هو الأصل بالنسبة لأبنائه وأحفاده ومن ينحدر عنهم، فيقال السادة النقويّون لانتهاء نسبهم إلى الإمام علي النقي (عليه السلام) والموسويون لانتهائه إلى الإمام موسى بن جعفر (عليه السلام)، والحسينيّون لانتهائه إلى الإمام الحسين (عليه السلام)، والحسنيّون لانتهائه إلى الإمام الحسن (عليه السلام)، وإلا فالنسب كلّه بفروعه وبطونه ينتهي إلى الإمام علي (عليه السلام) والزهراء (عليها السلام) حيث أنّهما مبدأ الذريّة الطيبة.
فاطمة المعصومة قبس من نور الزهراء