أنّ المواقف الإلهية النبوية التي أبداها الإمام عليّ بن الحسين السجّاد عليه السلام بعد كربلاء، وهو في أسْر الأعداء ، وفي الكوفة في مجلس أميرها، وفي الشام في مجلس ملِكها، لا تقلّ أهمية- من الناحية السياسية- عن الثبات في الميدان.
فالدور الذي أدّاه الإمام السجّاد عليه السلام، بمقاله الذي أفصح عن الحقّ ببلاغة معجِزة، أتمّ الحجّة على الجميع، بكلّ وضوح، وكشف عن تزوير الحكام الظالمين بكلّ جلاء، وأزاح الستار عن فسادهم وجورهم وانحرافهم عن الإسلام، وكان أنفذَ على نظام الحكم الفاسد، من أثَر سيفٍ واحد، يجرّده الإمام في وجه الظّلمة.
كان وجوده أقضَّ لمضاجع أعداء الإسلام من ألف سيفٍ وسيف ، لأنّ الإسلام إنّما يحافظ عليه ببقاء أفكاره وقيمه، والأعداء إنّما يستهدفون تلك الأفكار والقيَم في محاولاتهم ضدّه، وإذا كان شخص مثل الإمام موجوداً في الساحة، فإنّه - لا ريب - أعظم سدٍّ أمام محاولات الأعداء.
وَلْنُصغِ إلى الإمام السجّاد عليه السلام في بعض مواقفه في فترة الأسر. فمِن كلامٍ له عليه السلام كان يعلنه وهو في قافلة السبي:
((.. إنّ الله تعالى أكرمَ أقواماً بآبائهم، فحَفِظ الأبناءَ بالآباءِ، لقوله تعالى:
{.. وَكانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا..}الكهف:82
، فأكرمَهما. ونحن والله عترةُ رسولِ الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، فأكرِمونا لأجلِ رسولِ الله ، لأنّ جدّي رسولَ الله صلّى الله عليها وآله وسلّم، كان يقولُ في منبره :
( اِحفَظوني في عِترتي وأهلِ بَيتي، فَمَن حَفِظَني حفظَه اللهُ، ومَن آذاني فعليهِ لعنةُ الله، ألا فلَعنةُ اللهِ على مَن آذاني فيهِم)، حتّى قالها ثلاث مَرّات.)).
وبهذه الصراحة، والقوة، والبلاغة، عرّف الإمام السجّاد عليه السلام للمتفرّجين، ولمن ورائهم، هذا الركب المأسور، الذي نبزوه بأنّه ركب الخوراج! ففضح الدعايات، وأعلن بذلك أنّه ركبٌ يتألّف من أهل بيت الرسول صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وموقفٌ آخر له في مجلس يزيد، فقد أوضح فيه عن هويته الشخصية، فانبرى الإمام السجّاد عليه السلام، في خطبته البليغة الرائعة، التي لم يزل يقول فيها :
(( أنا ابنُ مكّة ومِنى.. أنا ابنُ زمزمَ والصّفا..))، وينتسب إلى النبيّ ومهبط الوحي والرسالة، معرّفاً بنفسه، وذاكراً أمجاد آبائه صلوات الله عليهم،
(( حتّى ضجَّ المجلس بالبكاء والنّحيب)).
فأدّى كلام الإمام عليه السلام إلى أن تتبخّر كل الدعايات المضلّلة التي روّجتها السياسة الأموية، والتي تركّزت على أنّ الأسرى هم من الخوارج! فبدّل نشوة الانتصار إلى حشرجة الموتى في حلوق المحتفلين!
وفي التزام الإمام السجّاد عليه السلام، بذكر هويّته الشخصية فقط في هذه الخطبة، ، حكمةٌ وتدبيرٌ سياسيٌّ واعٍ، إذ لم يكن له في مثل هذا المكان والزمان، أن يتطرق إلى شيءٍ من القضايا المهمّة، وإلاّ كان يُمنع من الكلام والنطق ، وأمّا الإعلان عن اسمه فهي قضية شخصية، وهو من أبسط الحقوق التي تُمنح للفرد، وإنْ كان في حالة الأسر. لكن كلام الإمام لم
يكن في الحقيقة إلاّ مليئاً بالتذكير والإيماء, بل الكناية التي هي أبلغ من التصريح، بِنَسَبه الشريف، واتّصاله بالإسلام، وبرسوله الكريم صلّى الله عليه وآله وسلّم.
وقد ذكّر الإمام عليه السلام، بكلّ المواقع الجغرافية، والمواقف الحاسمة والذكريات العظيمة في الإسلام، وربط نفسه بكلّ ذلك، فسرد - وبلُغة شخصية- حوادث تاريخ الإسلام، معبِّراً بذلك عن أنّه يحمل هموم ذلك التاريخ كلّه على عاتقه، وأنّه حامل هذا العبء، بكل ما فيه من قدسية،
ومع هذا فهو يقف (( أسيراً)) أمام أهل المجلس!وقد فهم الناس مغزى هذا الكلام العميق، فلذلك ضجّوا بالبكاء! فإنّ الحكام الأمويين إنّما حصلوا على مواقع السلطة من خلال ربط أنفسهم بالإسلام، فكسبوا لأنفسهم قدسية الخلافة!
وموقف آخر:
في وسط ذلك الجوّ الخانق، وفي عاصمة الحاكم المنتصِر، وفي حالة الأسر، يرفع الإمام صوته، ليُسمِع الآذان التي أصمّها الضوضاء والصخب، في ما رواه المنهال بن عمرو، قال :
(( دخلتُ على عليّ بن الحسين، فقلت : كيف أصبحتَ، أصلحك الله؟!
فقال عليه السلام :
.. فأنا أخبرُك؛ أصبَحنا في قومِنا بِمنزلةِ بني إسرائيل في آلِ فرعون،
إذ كانوا {.. يُذَبِّحُ أبْنَاءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِ نِسَائَهُمْ..}
وأصبحنا، شيخَنا وسيّدَنا يُتقرّب إلى عدوِّنا بِشتمِه، وبِسبِّه على المنابر. [أي يقتل الذكور ويُبقي الإناث على قيد الحياة]
وأصبحت قريشُ تعدّ أنّ لها الفضلَ على العربِ، لأنّ محمّداً منها، لا يُعَدُّ لها فضلٌ إلاّ به. وأصبَحتِ العربُ مُقِرّةً لهم بذلك. وأصبحتِ العربُ تعدُّ أنّ لها الفضلَ على العجمِ ، لأنّ محمّداً منها، لا يُعَدّ لها فضلٌ إلاّ به. وأصبحت العَجمُ مقرّةً لهم بذلك.
فإنْ كانتِ العربُ صدَقَت أنّ لها الفضلَ على العجَم، وصدَقت قريش أنّ لها الفضلَ على العرِب لأنّ محمّداً منها، (فــ)إنَّ لنا - أهلَ البيت- الفضلَ على قريش، لأنّ محمّداً منّا. فأضْحوا يأخذون بِحقّنا، ولا يعرفون لنا حقّاً.فهكذا أصبحنا، إنْ لم يعلَم : كيف أصبحنا ؟!)).
قال المنهال: فظننت أنه يُريد أن يُسمع من في البيت. (أي يُسمع الحاضرين ليبلغ لكلام إلى يزيد).
إلى غير ذلك من المواقف التي كان لها أثرٌ حاسم في تغيير سياسة يزيد تجاه هذا الركب المأسور، بل الآسِر، حتى أرجعه إلى المدينة!
إنّ صاحب هذه المواقف الإلهية ذو روحٍ نبويّة علويّة، وإذا لم يُتَح له بعد كربلاء أن يأخذ بقائمة السيف، فسنان المنطق في قبضته، يهتك به ظلام التعتيم الإعلامي المضلِّل! وقد اتّبع الإمام السجّاد عليه السلام هذه الخطّة بحكمة وتدبيرٍ ربّانيّ عن علمٍ بالأمر، وعمدٍ له، وكشف عن أنّه انتهجه سياسة مدبّرة مدروسة.
وإذا قُتل الحسين عليه السلام، غريباً في كربلاء، فإنّ نداءاته ظلّت تدوّي عبر كلمات الإمام السجّاد عليه السلام في مسيرة الأسر، وفي قلب مجالس الحكّام الظّالمين.
المحقّق السيّد محمّد رضا الجلالي
مختصر عن كتابه (جهاد الإمام السجّاد عليه السلام)