اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
بسم الله الرحمن الرحيم
{قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ، وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ، قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ، مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ، وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ، وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ}([1]).
أسلوب قرآني مميّز:
على طريقة السؤال والجواب المباشر (قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله) من غير انتظار لجواب المخاطبين وقد يكون ذلك لبديهية الجواب وظهور الحجج كقول المعلّم للتلميذ: من علّمك؟ وبطريقة الاستفهام التقريري الذي يراد به انتزاع الجواب تقريعاً لهم، فهم لا يمكنهم ان يدّعوا مالكية السماوات والأرض.
والسؤال يقتضي ان يكون جوابه: ان عالم الوجود هو ملك لله سبحانه وتعالى. وفي جواب الرسول (قل لله) اتمام للحجة عليهم وهو منطق فطرتهم قبل ان تتلوث. وهذه المالكية التي أقرتها بداية الآية المباركة ستكون معتمداً لبيان المعاد من خلال أسلوب جديد وهو:
كتب على نفسه الرحمة:
روي عن الرسول محمد (صلى الله عليه وآله):
(ان الله خلق مائة رحمة يوم خلق السماوات والأرض، كل رحمة منها طباق ما بين السماء والأرض، فأهبط رحمة منها الى الأرض فبها تراحم الخلق، وبها تعطف الوالدة على ولدها، وبها تشرب الطير والوحوش من الماء وبها تعيش الخلائق).
حتى روي كذلك عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
(لو تعلمون قدر رحمة الله تعالى لاتكلتم عليها).
فالله سبحانه كتب أي اثبت وقضى وألزم نفسه تلطفاً بهذه الرحمة وحين يرحمنا الله يرفع حاجة المحتاج ويوصل الشيء الى استحقاقه فهو سبحانه مصدر الرحمة تكفل إفاضة النعمة على مستحقيها وإيصالهم الى السعادة التي تليق بهم.
وقد روي عن الامام الباقر (عليه السلام) في معنى الآية:
(أي سبقت قبل الغضب صدقاً وعدلاً، فلا يبتديء العباد بالغضب قبل أن يغضبوه)
الجمع يوم القيامة:
ليجمعنكم: لام القسم ونون التوكيد الثقيلة و (لا ريب فيه) كلها مؤكدات لهذا الجمع وهو ردّ على منكري البعث يوم القيامة، وقد جاء ذلك عقيب اقرار المالكية لله سبحانه وكتابة الرحمة على نفسه. نعم: من رحمته سبحانه انه أمهلهم الى يوم القيامة ويجمعنا فيثيب الصالحين ويعاقب من خسر نفسه من المشركين ممن لا يؤمن بهذه الحقائق بعد وضوحها (الذين خسروا انفسهم فهم لا يؤمنون) وهي أعظم الخسارات التي تقع على الانسان والمجتمع حينما يخسرون وجودهم.
الساكن والمتحرك:
السكون ضد الحركة وهو أصل، أما التحرك فهو طاريء وكلاهما ملك لله سبحانه ولا يختص ذلك بالارض ذات الليل والنهار فهناك نهار سرمدي كما الشمس وهناك كواكب أخرى ليلها سرمدي، ورغم سعة هذا الكون المترامي فأن الله سبحانه لا يعجزه ذلك عن سمع أو علم بهذا الكون فهو المالك الذي يعود اليه هذا الكون بكل ما فيه لا لسواه.
استفهام توبيخي:
هؤلاء قد عرضوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله) أموالاً حتى يترك آلهتهم
ولا ينال منها وهي محاولة إغرائية بائسة، فأمره الله سبحانه ان يوجه لهم ما يوبّخهم به:
1- من هو خالق السماوات والارض وفاطرهما على غير مثال سابق حتى اتخذه رباً ومولى غير الله.
2- الانداد المفترضون لديكم مطعومون محتاجون للمطعِم وهو الله سبحانه الغني عن ذلك، وقد اشارت الآية المباركة الى (الإطعام) باعتباره حاجة فوق كل الاحتياجات لولاه يموت الانسان والكائن الحي من غير إطعام. فبيده سبحانه حياتهم ومماتهم وكامل وجودهم، فالناس المشركون انما اتخذوا الاصنام والالهة فعبدوها لسببين:
اما أنهم وجدوا أنفسهم في حاجة أسباب كثيرة كالطعام واللباس والمسكن والاولاد وغيرها أو انهم خافوا الاخطار والمكاره مثل الزلازل والسيول والنار وغيرها وكلاهما جهل بالحقيقة الالهية، لكن الآية الكريمة شخّصت ما هو أكبر من ذلك وهو الحاجة الى الاطعام الذي فيه الحياة والموت فمن بيده هذا الإطعام؟
اول من أسلم:
بعد ذلك أمر الله سبحانه رسوله بأن يقول لهم جهاراً: (اني أمرت ان أكون اول من أسلم): أي أول قومه إسلاماً بالدين الخاتم، وقد أمرني ربي بالاسلام ونهاني عن الشرك فأدعوكم لهذا الدين الجديد، وأسلم بمعنى خضع أي لله سبحانه فلا مجال للشرك أذن وليس أمامكم إلا الله الولي الفاطر الرازق وتأتي الآية اللاحقة لتعزز هذا المعنى بأن النبي محمد (صلى الله عليه وآله) يخاف ربه عذاب يوم شديد على الناس فلا يعصي الله سبحانه. وهذا العذاب يوم القيامة من يُصرف ويدفع عنه فأنه مرحوم فائز بنجاة ظاهرة.
هو الضار النافع:
وهذا دليل آخر عن الوحدانية لتفرّده سبحانه بهذا النوع من التصرف في خلقه فهو يضرّ وينفع.
الضرّ: مثل المرض والفقر والحاجة وكل نقيصة تصيب الانسان مادياً كالمرض أو معنوياً كزوال السلطة والقدرة، والجهل وغيرها، وحين ينسب الضرّ لله سبحانه فيعني سلب الخير عمن يستحق ذلك لمصلحة يعلمها الله سبحانه.
الخير: يقابل الضرّ مثل الغنى والصحة والعلم والقدرة وغيرها. فالله سبحانه هو من يدفع الضرّ ويكشفه، وهو سبحانه كذلك من يديم الغنى والقدرة والصحة والعلم وغيرها من الخير، ولا يقع ضرّ ولا خير إلا بأرادته سبحانه وقد عبّرت الآية بـ (يمسسك) اشارة للقليل من الخير والشر مع ذلك فأنه لا يتم إلا بأرادة منه سبحانه، لأن العلل لا تؤثر بمعلولاتها إلا بأذنه سبحانه
الانبياء (ع) في حاجة ربهم:
ليس للانبياء قوة مستقلة وليسوا مستـثنين من القوانين الالهية لكنهم متسلحون بالعصمة من الله فشعور الانبياء (ع) وإحساسهم بالمسؤولية أمام ربهم أكثر وأشد واقوى.
وقد روي عن رسول الله (ص) قال:
(والذي نفسي بيده ما من الناس أحد يدخل الجنة بعمله قالوا ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا ان يغمدني الله برحمة منه وفضل).
والآيات 14-18 من هذه السورة تتحدث عن هذا الجانب في بيان اللجوء الى الله سبحانه الضار النافع الذي يطعِمُ ولا يطعَمُ والقاهر فوق عباده الذي تخضع له الرقاب وتذلّ الجبابرة.
وهو القاهر فوق عباده:
أي الغالب كقوله تعالى: (يد الله فوق أيديهم)([2])، وقد فرّق المفسرون بين:
القهر: وهو الانتصار على الآخر بدون مقاومة.
والغلبة: وهو الانتصار على الآخر بعد مقاومة
فالله سبحانه ليس بمقدور احد أو أية قدرة أخرى مقاومة ارادته وسلطانه وقدرته، وهو الحكيم الذي لا يظلم بهذا القهر لعلمه بالاشياء ومصائرها وما تؤول اليه، بينما المنطق الفرعوني الظالم للآخرين يحكي القرآن الكريم عنه قول فرعون لبني اسرائيل: (وإنا فوقهم قاهرون)([3]).
([1]) سورة الانعام: 12-18.
([2]) سورة الفتح: 10.
([3]) سورة الاعراف: 127.
دروس في تفسير القرآن الكريم/ د. علي الأوسي