لغة التعالي في القرآن، حقيقة أم وهم؟ ج2
الوجه الأول: التفريق بين حقيقة التعالي وأسلوب التعالي.
إنَّ هناك فرقًا بين حقيقة التعالي وأسلوب التعالي، والذي يتنافى مع هدف الهداية وهدف التربية على الهداية هو حقيقة التعالي وليس أسلوب التعالي؛ فإن حقيقة التعالي هي أن يتعالى عليك من يتكلم معك، فإذا كان يظهر نفسه أنه أعلى منك عندما يتحدث معك، ويظهر نفسه أنه أعلم منك وأفهم منك عندما يتحدث معك، فإن هذا الإظهار وهذا الإبراز للعلو هو المعبّر عنه بحقيقة التعالي، وحقيقة التعالي قد يقال بأنَّها أسلوبٌ منفِّرٌ من الهداية، ومانعٌ من التربية على التقوى.
أما أسلوب التعالي من دون أن يكون هناك تعالٍ حقيقيٌّ عند المتكلم، فالأسلوب بما هو أسلوبٌ ليس مانعًا من هدف الهداية، وذلك لأن علماء اللغة يقولون: قيمة الأسلوب بغرضه لا بذات الأسلوب، ليس القيمة لنفس الأسلوب، القيمة للغرض والهدف من الأسلوب، فإذا كان التعالي مجرد أسلوب وليس حقيقة، فبما هو أسلوبٌ لا يتنافى مع غرض الهداية، بل لا بد أن نلاحظ الغرض من هذا الأسلوب، فإن قيمة الأسلوب وميزانه بغرضه.
والمفروض أن حقيقة التعالي لا تُتَصَوَّر وتُتَعَقَّل في الله عز وجل؛ لأنَّ الذي يحتاج إلى التعالي هو السافل، إذا كان الموجود سافلًا دانيًا فإنه يحتاج إلى التعالي؛ لأنه فاقدٌ للعلو، وبما أنه يشعر بالنقص وأنه فاقدٌ للعلو، لذلك تراه يحتاج إلى التعالي، ولذلك إذا تحدثت مع إنسان ورأيت نصف كلامه: أنا وأنا وأنا... إلخ، 50 مرة أنا، وأنا فعلت وأنا قلت وأنا سأفعل وأنا سأقول... إلخ، هذه الأنا تكشف عن شعورٍ بالنقص، يريد أن يكمله بهذه الكلمات، وبهذه الألفاظ، فالتعالي الحقيقي هو عبارة عن إظهار الداني العلوَ، وإظهار السافل أنه عالٍ، وهذا لا يُتصوّر في حقيقته تعالى؛ لأنه هو عين العلو، وعين المجد، فلا يتعقّل في حقيقته أنه يبرز التعالي، ويبرز التسامي، لأنه عين السمو وعين العلو، فلا يحتاج إلى أن يبرز أنه متعالٍ، وأنه متسامٍ على خلقه.
فإن كان المنظور هو حقيقة التعالي فحقيقة التعالي غير موجودة، ولا تُعْقَل في حقّه تبارك وتعالى، وإن كان المنظور هو أسلوب التعالي فإن أسلوب التعالي لا يتنافى مع غرض الهداية، كما ذكرنا: الأسلوب بما هو أسلوب ليست قيمته بلفظه، وليست قيمته بسجعه، وإنما قيمته بالغرض منه والهدف من صياغته، فلنرجع إلى غرضه لنرى هل أن الغرض من أسلوب التعالي يتنافى مع غرض الهداية أم لا؟ فهو منافٍ لغرض الهداية - وهي حقيقة التعالي - غير موجودة، ولا تتصوّر في حقه تعالى، وما هو موجود أو يتوهّم وجوده - وهو أسلوب التعالي - فليس منافيًا لغرض الهداية.
الوجه الثاني: إنكار وجود أسلوب التعالي في القرآن.
نقول: ليس في القرآن أسلوب التعالي أصلًا، لا أننا ننكر حقيقة التعالي فقط، بل ننكر حتى أسلوب التعالي، فنقول: ليس في القرآن أسلوب التعالي، وما ذُكِر إنما هو اشتباهٌ وتوهّمٌ، فلنستقرئ الموارد التي اُستشهد بها على أن في القرآن أسلوبَ التعالي.
المورد الأول: ذكر النعم.
الله يذكر النعم دائمًا، وفي كثير من السور، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾. إن ذكر النعم ليس تعاليًا وامتنانًا، وإنما هو إرشادٌ إلى مبدأين ارتكازيين فطريين لدى الإنسان، وهما:
المبدأ الأول: حسن شكر المنعم.
الإنسان بفطرته يؤمن بأن شكر المنعم جميلٌ، والكفران بالمنعم قبيحٌ، فهناك مبدأ انعقدت عليه فطرة الإنسان، وهو حسن شكر المنعم، فهذه الآيات التي تذكّر بالنعم وتكرّر ذكر النعم الغرض منها إثارة ذلك المبدأ الفطري، الغرض منها إثارة الفطرة، وإيقاظ الفطرة على أن تتنبه لهذا المبدأ، ألا وهو أن المنعم يُشْكَر، فإن شكر المنعم جميل، والكفران بالمنعم قبيح.
المبدأ الآخر: مبدأ حق الطاعة.
المقصود بهذا المبدأ - الذي يعبّر عنه علماء الكلام بمبدأ حق الطاعة - أن هناك ملازمة بين الخالقية وبين حق الطاعة، هذا ليس أي منعم، هذا ليس مثل الأب أنعم عليك بنعمة التربية، أو الأستاذ أنعم عليك بنعمة التعليم، لا، بل أنت منذ كنت أنت ومن عالم الأرواح إلى أن تصل إليه، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، إلى يوم اللقاء، منذ ذلك اليوم - يوم عالم الذر - إلى ذلك اليوم يوم عالم اللقاء وأنت محفوفٌ بنعمه، محفوفٌ بفضله، محفوفٌ فبعطائه، محفوفٌ برزقه، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، فهنالك ملازمة بين الخالقية وبين حق الطاعة، فمن كانت له الخالقية المطلقة ومن كانت له الموجودية المطلقة بحيث لا ينفك الإنسان في كل آن عن مدد ووجود منه تبارك وتعالى فله حق الطاعة على عبده.
المورد الثاني: ما عُبِّر عنه بذم أكثرية المجتمع.
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وأمثال هذه الآيات. الصحيح أن هذه الآيات ليست ذمًا، بل هي إخبار، وفرق بين الإخبار وبين الذم؛ فإن الذم من مقولة الإنشاء، فهناك فرق بين أن تقول: فلان منحرفٌ فاشلٌ في حياته مخفقٌ في طريقه، هذا ذمٌ، وبين أن تقول: فلان مريض، فيه المرض الفلاني، فلان دخل في تجارة وانكسر. هذا لا يقال له ذم، هذا يقال له إخبار، أنت تخبر عن واقع، لا تذمه، صحيح أن ما أخبرت به هو مشكلة، هذا والله مريض بمرض خطير، ما أخبرت به هو في حد ذاته سوء، لكن هذا إخبار عن السوء وليس ذمًّا، فالذم من مقولة الإنشاء، لا من مقولة الإخبار.
السيد منير الخباز
الوجه الأول: التفريق بين حقيقة التعالي وأسلوب التعالي.
إنَّ هناك فرقًا بين حقيقة التعالي وأسلوب التعالي، والذي يتنافى مع هدف الهداية وهدف التربية على الهداية هو حقيقة التعالي وليس أسلوب التعالي؛ فإن حقيقة التعالي هي أن يتعالى عليك من يتكلم معك، فإذا كان يظهر نفسه أنه أعلى منك عندما يتحدث معك، ويظهر نفسه أنه أعلم منك وأفهم منك عندما يتحدث معك، فإن هذا الإظهار وهذا الإبراز للعلو هو المعبّر عنه بحقيقة التعالي، وحقيقة التعالي قد يقال بأنَّها أسلوبٌ منفِّرٌ من الهداية، ومانعٌ من التربية على التقوى.
أما أسلوب التعالي من دون أن يكون هناك تعالٍ حقيقيٌّ عند المتكلم، فالأسلوب بما هو أسلوبٌ ليس مانعًا من هدف الهداية، وذلك لأن علماء اللغة يقولون: قيمة الأسلوب بغرضه لا بذات الأسلوب، ليس القيمة لنفس الأسلوب، القيمة للغرض والهدف من الأسلوب، فإذا كان التعالي مجرد أسلوب وليس حقيقة، فبما هو أسلوبٌ لا يتنافى مع غرض الهداية، بل لا بد أن نلاحظ الغرض من هذا الأسلوب، فإن قيمة الأسلوب وميزانه بغرضه.
والمفروض أن حقيقة التعالي لا تُتَصَوَّر وتُتَعَقَّل في الله عز وجل؛ لأنَّ الذي يحتاج إلى التعالي هو السافل، إذا كان الموجود سافلًا دانيًا فإنه يحتاج إلى التعالي؛ لأنه فاقدٌ للعلو، وبما أنه يشعر بالنقص وأنه فاقدٌ للعلو، لذلك تراه يحتاج إلى التعالي، ولذلك إذا تحدثت مع إنسان ورأيت نصف كلامه: أنا وأنا وأنا... إلخ، 50 مرة أنا، وأنا فعلت وأنا قلت وأنا سأفعل وأنا سأقول... إلخ، هذه الأنا تكشف عن شعورٍ بالنقص، يريد أن يكمله بهذه الكلمات، وبهذه الألفاظ، فالتعالي الحقيقي هو عبارة عن إظهار الداني العلوَ، وإظهار السافل أنه عالٍ، وهذا لا يُتصوّر في حقيقته تعالى؛ لأنه هو عين العلو، وعين المجد، فلا يتعقّل في حقيقته أنه يبرز التعالي، ويبرز التسامي، لأنه عين السمو وعين العلو، فلا يحتاج إلى أن يبرز أنه متعالٍ، وأنه متسامٍ على خلقه.
فإن كان المنظور هو حقيقة التعالي فحقيقة التعالي غير موجودة، ولا تُعْقَل في حقّه تبارك وتعالى، وإن كان المنظور هو أسلوب التعالي فإن أسلوب التعالي لا يتنافى مع غرض الهداية، كما ذكرنا: الأسلوب بما هو أسلوب ليست قيمته بلفظه، وليست قيمته بسجعه، وإنما قيمته بالغرض منه والهدف من صياغته، فلنرجع إلى غرضه لنرى هل أن الغرض من أسلوب التعالي يتنافى مع غرض الهداية أم لا؟ فهو منافٍ لغرض الهداية - وهي حقيقة التعالي - غير موجودة، ولا تتصوّر في حقه تعالى، وما هو موجود أو يتوهّم وجوده - وهو أسلوب التعالي - فليس منافيًا لغرض الهداية.
الوجه الثاني: إنكار وجود أسلوب التعالي في القرآن.
نقول: ليس في القرآن أسلوب التعالي أصلًا، لا أننا ننكر حقيقة التعالي فقط، بل ننكر حتى أسلوب التعالي، فنقول: ليس في القرآن أسلوب التعالي، وما ذُكِر إنما هو اشتباهٌ وتوهّمٌ، فلنستقرئ الموارد التي اُستشهد بها على أن في القرآن أسلوبَ التعالي.
المورد الأول: ذكر النعم.
الله يذكر النعم دائمًا، وفي كثير من السور، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، ﴿وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لَا تُحْصُوهَا﴾، ﴿أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ * وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ * وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ﴾، ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ * أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ﴾ ﴿أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ * أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ﴾ ﴿أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ * أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ﴾. إن ذكر النعم ليس تعاليًا وامتنانًا، وإنما هو إرشادٌ إلى مبدأين ارتكازيين فطريين لدى الإنسان، وهما:
المبدأ الأول: حسن شكر المنعم.
الإنسان بفطرته يؤمن بأن شكر المنعم جميلٌ، والكفران بالمنعم قبيحٌ، فهناك مبدأ انعقدت عليه فطرة الإنسان، وهو حسن شكر المنعم، فهذه الآيات التي تذكّر بالنعم وتكرّر ذكر النعم الغرض منها إثارة ذلك المبدأ الفطري، الغرض منها إثارة الفطرة، وإيقاظ الفطرة على أن تتنبه لهذا المبدأ، ألا وهو أن المنعم يُشْكَر، فإن شكر المنعم جميل، والكفران بالمنعم قبيح.
المبدأ الآخر: مبدأ حق الطاعة.
المقصود بهذا المبدأ - الذي يعبّر عنه علماء الكلام بمبدأ حق الطاعة - أن هناك ملازمة بين الخالقية وبين حق الطاعة، هذا ليس أي منعم، هذا ليس مثل الأب أنعم عليك بنعمة التربية، أو الأستاذ أنعم عليك بنعمة التعليم، لا، بل أنت منذ كنت أنت ومن عالم الأرواح إلى أن تصل إليه، ﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾، إلى يوم اللقاء، منذ ذلك اليوم - يوم عالم الذر - إلى ذلك اليوم يوم عالم اللقاء وأنت محفوفٌ بنعمه، محفوفٌ بفضله، محفوفٌ فبعطائه، محفوفٌ برزقه، ﴿وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾، فهنالك ملازمة بين الخالقية وبين حق الطاعة، فمن كانت له الخالقية المطلقة ومن كانت له الموجودية المطلقة بحيث لا ينفك الإنسان في كل آن عن مدد ووجود منه تبارك وتعالى فله حق الطاعة على عبده.
المورد الثاني: ما عُبِّر عنه بذم أكثرية المجتمع.
﴿وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾، ﴿وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ﴾، وأمثال هذه الآيات. الصحيح أن هذه الآيات ليست ذمًا، بل هي إخبار، وفرق بين الإخبار وبين الذم؛ فإن الذم من مقولة الإنشاء، فهناك فرق بين أن تقول: فلان منحرفٌ فاشلٌ في حياته مخفقٌ في طريقه، هذا ذمٌ، وبين أن تقول: فلان مريض، فيه المرض الفلاني، فلان دخل في تجارة وانكسر. هذا لا يقال له ذم، هذا يقال له إخبار، أنت تخبر عن واقع، لا تذمه، صحيح أن ما أخبرت به هو مشكلة، هذا والله مريض بمرض خطير، ما أخبرت به هو في حد ذاته سوء، لكن هذا إخبار عن السوء وليس ذمًّا، فالذم من مقولة الإنشاء، لا من مقولة الإخبار.
السيد منير الخباز