باب الحوائج ما دعته مروعة***في حاجة إلاّ ويقضي حاجها
بأبي أباالفضل الّذي من فضله***السّامي تعلّمتِ الورى منهاجها
زجّ الثّرى من عزمه فوق السّما***حتّى علت في تربة أبراجها
قُطعت يداه وطالما من كفّه***دَيم السّماحة أمطرت ثجّاجها
وقال آخر :
أباالفضل إنّي جئتك اليوم سائلاً***لتيسير ما أرجو ، فأنت أخو الشِّبلِ
فلا غرو إن أسعفت مثلي بائساً***لأنّك للحاجات تدعى : أبوالفضلِ
الأبواب والوسائل إلى الله
إنّ كلّ المعصومين الأربعة عشر (عليهم السلام) وهم : رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابنته الصدّيقة الكبرى فاطمة الزّهراء (عليها السلام) ، والأئمّة الإثنا عشر من أهل البيت (عليهم السلام) ، وكذلك بعض خاصّتهم وذويهم ، هم أبواب الحوائج إلى الله تعالى ، والوسائل إلى رضوانه وجنّته ، وهم الأسماء الحسنى الّتي أمر الله تعالى أن ندعوه بها ونتوجّه عبرها إليه ، حيث قال سبحانه : ( ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها ) وقال سبحانه : ( وابتغوا إليه الوسيلة ) .
لكن هناك من بينهم من عُرف واشتهر بكونه باب الحوائج ، أكثر من البقيّة ، علماً بأنّ أولئك الّذين اشتهروا بكونهم أبواب الحوائج هم أربعة أشخاص : واحد منهم من الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) ، والثلاثة الباقون من ذويهم وخاصّتهم .
أوّل أبواب الحوائج
أمّا باب الحوائج من الأئمّة (عليهم السلام) فهو الإمام الكاظم موسى بن جعفر (عليه السلام)فإنّه عرف لدى المسلمين بباب الحوائج واشتهر به ، وذلك لكثرة ما ظهر منه (عليه السلام)ومن مرقده الشّريف من كرامات ومعجزات ، ومن كفاية المهمّات والحاجات ، حتّى اعترف بذلك كبار علماءالعامة وأئمّتهم ، ناهيك عن عامة الشيعة وخاصّتهم .
فقد قال إمام الشافعيّة محمّد بن إدريس الشّافعي ـ على ما في تاريخ بغداد ـ : مرقد الإمام موسى الكاظم (عليه السلام) ترياق القلوب ، وشفاء الأمراض الروحيّة والقلبيّة .
وقال شيخ الحنابلة الحسن بن إبراهيم أبو علي الخلال ـ كما في تاريخ بغداد أيضاً ـ : كلّما عرضت لي حاجة ملحّة وأردت إمضاءها وإنجاحها ، زرت مقابر قريش ، وذهبت إلى حائط شونيزيّة ، ووقفت على قبر باب الحوائج موسى بن جعفر (عليه السلام) ، وتوسّلت به إلى الله تعالى في قضاء حاجتي ، ورجعت مرحوماً غير محروم ، مقضيّة حاجتي ، ومرحومة عبرتي .
هذا بعض اعترافات علماء العامّة ، ناهيك عن علماء الخاصّة فإنّ كتبهم مليئة بذلك .
ثاني أبواب الحوائج
وأمّا الثلاثة الباقون ممّن عُرفوا بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وخاصّتهم ، فهم كالتالي :
1 ـ الطّفل الرّضيع : وهو الجندي الصّغير من حيث السّن ، والكبير من حيث القدر والمعنى ، الّذي استشهد على يدي أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) في يوم عاشوراء وذلك حين أخذه إلى عسكر يزيد بن معاوية ليسقوه شربة من الماء ، الّذي كانوا قد منعوه على الإمام الحسين (عليه السلام) وأصحابه وأهل بيته ، لكنّهم بدل أن يعطفوا على هذا الرّضيع ويسقوه الماء مع ما كانوا يرونه كيف يتلظّى من شدّة العطش ، ويلوك لسانه من حرارة الظّمأ ، سقوه بكأس الموت ، ورموه بسهم المنيّة ، فذبحوه على يدي أبيه الإمام الحسين (عليه السلام) من الوريد إلى الوريد ، ومن الاُذن إلى الاُذن ، وتركوه يرفرف كالطّير المذبوح على يدي أبيه ، حتّى لفظ أنفاسه الأخيرة في وجه أبيه بابتسامة ارتسمت على شفتيه ، كناية عن رضاه بتقديم نفسه هدية صغيرة ، وفداءاً متواضعاً لله تعالى ، فتقبّله الله بأحسن قبوله ، وجعله باباً من أبواب الحوائج إليه ، حتّى عرف بباب الحوائج .
ثالثُ أبواب الحوائج
2 ـ الثاني ممّن عرف بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومين (عليهم السلام)وخاصّتهم : أمّ البنين (عليها السلام) وهي أمّ أبي الفضل العباس (عليه السلام) يعني : فاطمة بنت حزام الوحيدية الكلابية ، وقد نالت هذا المقام عند الله تبارك وتعالى بحسن اعتقادها وإيمانها بالله ورسوله ، وشدّة إخلاصها وولائها لأهل بيت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ، فقد نذرت نفسها ووقفت طاقاتها ـ لَمّا تقلّدت وسام الزوجيّة من ابن عمّ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والامام أميرالمؤمنين (عليه السلام) ومن حين دخلت بيته ـ لخدمة ابني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانتيه ، الإمامين الهمامين : الحسن والحسين (عليهما السلام) ، وقدَّمتهما على نفسها وعلى أولادها وذويها ، وعلّمت أولادها وُدَّهما والإخلاص في ولائهم لهما ، وربّتهم على محبّتهما ، وعلى إيثارهما وتقديمهما على أنفسهم ، والتّضحية والفداء من أجلهما بالرّوح والدّم ، والغالي والرّخيص ، وأرسلتهم مع إمامهم الحسين (عليه السلام) في خروجه من المدينة نحو مكّة والعراق ، وأمرتهم بنصرته والذبّ عنه ،وأوصتهم على أن لا يبخلوا بأنفسهم وبذل أرواحهم في حفظه والدّفاع عنه .
وكذلك فعلوا ، حيث انّهم لم يقصِّروا في نصرة إمامهم ، ولم يرغبوا بأنفسهم عن نفسه ، وإنّما قدّموها فداءاً لإمامهم الحسين (عليه السلام) ووقاءاً له ، ونالوا بذلك شرف الدّنيا وثواب الآخرة .
هذا وعندما جاء بشر بن حذلم ينعى الإمام الحسين (عليه السلام) إلى أهل المدينة ، خرجت أمّ البنين فيمن خرج من النّاس ، لكنّها لم تسأل بشراً عن أولادها وإنّما سألته عن سيّدها الإمام الحسين (عليه السلام) ، وكلّما كان بشر يخبرها بقتل واحد واحد من أولادها ، كانت تجيبه وبكلّ رباطة جأش ، وسكون نفس : فداءاً لسيّدنا الحسين (عليه السلام) ، ثمّ كانت تقول له : أسألك عن سيّدي الحسين (عليه السلام) وتخبرني عن أولادي ؟ حتّى إذا سمعت بنعي الإمام الحسين (عليه السلام) ، بكت واعولت ، ووقعت مغشيّاً عليها .
وهنا لمّا رأى الله تعالى كبير إخلاصها ، وعظيم حبّها وولائها ، وصدق قولها وفعلها ، أثابها على ذلك بعزّ الدّنيا ، وشرف الآخرة ، وجعلها باباً من أبواب الحوائج إليه ، ووسيلة من وسائل رضوانه وغفرانه ، فما رجاها مؤمّل حاجة ، ولا صاحب مشكلة ، ووسّطها إلى الله تعالى إلاّ وانقلب بقضاء حاجته ، ونجاح مهمّته ، وحلّ مشكلته .
رابعُ أبواب الحوائج
3 ـ الثالث والأخير ممّن عرف بباب الحوائج من ذوي الأئمّة المعصومين (عليهم السلام) وخاصّتهم : أبوالفضل العباس (عليه السلام) ، وهو محطّ بحثنا ، ومحور حديثنا في هذا الكتاب ، وأنعِم به باباً للحوائج ، فقد نال هذا المقام ، واتّسم بهذا الوسام ، ثواباً من عند الله تبارك وتعالى على عظيم عنائه وبلائه ، وتقديراً له على كبير مواساته وإيثاره ، حتّى جاء في زيارته المعروفة ، المنقولة عن الإمام الصّادق (عليه السلام) : «أشهد لقد نصحت لله ولرسوله ولأخيك ، فنعم الأخ المواسي ... إلى أن يقول (عليه السلام) : فنعم الصّابر المجاهد ، المحامي النّاصر ، والأخ الدّافع عن أخيه ...».
نعم ، لقد واسى أبوالفضل العباس (عليه السلام) أخاه الإمام الحسين (عليه السلام) مواساة عظيمة ، وأدّى ما كان عليه من حقوق الأخوّة ، ممّا استحقّ بها المدح من الإمام الصّادق (عليه السلام) والثّناء عليه بقوله : «فنعم الأخ المواسي» .
هذا وحيث كان كلّ همّ أبي الفضل (عليه السلام) هو نصرة أخيه الإمام الحسين (عليه السلام)والذبّ عنه ، وحمايته والدّفع عنه ، استحقّ بسببه أيضاً إطراء الإمام الصّادق (عليه السلام)عليه والإعتزاز به بقوله : «فنعم الصّابر المجاهد ، المحامي النّاصر ، والأخ الدّافع عن أخيه» .
أجل لقد كان أبوالفضل العباس (عليه السلام) من عظيم إيمانه بالله ورسوله وأهل بيته ، وكبير تأدّبه مع أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) ، يرى نفسه ـ على ما كان عليه من فضل وعلم ، وشرف وسؤدد ـ جنديّاً صفراً تجاه قائد سماوي عظيم ، وعبداً رقّاً أمام مولىً كريم .
كيف لا والإمام الحسين (عليه السلام) حجّة الله على خلقه ، والإمام المنصوب من عند الله تبارك وتعالى في بريّته ، كما نصّ الرّسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك عليه ، وأبوالفضل (عليه السلام)هو من يعرف حقّ الحجّة ، ولذلك كان العباس (عليه السلام) حتّى في يوم عاشوراء لا يتصرّف من عند نفسه ، ولا يجتهد برأيه ، بل كان يتعبّد بكلّ الأوامر الصّادرة إليه من مولاه وإمامه ، ويطبّقها تطبيقاً حرفياً بلا زيادة ولا نقصان من عنده ، وقد تجلّى ذلك في موقفه عند ما جاء إلى الإمام الحسين (عليه السلام) يستأذنه في البراز ومقاتلة القوم الظّالمين ، الّذين لم يحفظوا حرمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذرّيّته ، ولم يراعوا شخصه الكريم بعد غيابه في أبنائه وأهل بيته ، لكن الإمام الحسين (عليه السلام) أبى أن يأذن له ، وقال : إن كان ولابدّ ، فاطلب لهؤلاء الأطفال قليلاً من الماء .
العباس (عليه السلام) عند طلب أخيه
امتثل أبوالفضل (عليه السلام) كلام أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) ، وانصرف عن مقاتلة الأعداء ، وأقبل نحو الخيام وأخذ منها قربة خاوية ، واتّجه بها نحو العلقمي ليأتي بالماء إلى الأطفال .
أقبل العباس (عليه السلام) حتى اقتحم الفرات ولمّا أحسّ ببرد الماء ، اغترف منه غرفة بيده ، وقرّبه إلى فمه ، فقد كان عطشاناً شديد العطش ، ظمآناً عظيم الظمأ ، لكنّه عندما قرّب الماء من فمه ، تذكّر عطش أخيه الإمام الحسين (عليه السلام) فأبى أن يشرب مواساة لأخيه ، وصبّ الماء على الماء ، وملأ القربة وخرج من الفرات متّجهاً نحو مخيّم النّساء والأطفال ، وكلّ همّه إيصال الماء إلى الأطفال العطاشى ، الّذين بقوا بانتظار مجيئه عندما رأوه أخذ القربة واتّجه نحو الفرات .
تركُ البراز من أجل الماء
لقد ترك أبوالفضل العباس (عليه السلام) مقاتلة القوم الّذين قتلوا إخوته وأبناء إخوته ولم يشف صدره منهم ، ابتغاء طلب الماء وإيصاله إلى الأطفال العطاشى ، هذا وهو البطل العظيم الّذي ورث الشجاعة من أبيه الإمام أميرالمؤمنين (عليه السلام) والّذي لو كان همّه بدل إيصال الماء ، مقاتلة هؤلاء الظّالمين ، لما ترك على وجه الأرض منهم أحداً ينجو بنفسه ، ولا شخصاً منهم يسلم على روحه ، لكنّه امتثل أمر إمامه ، واكتفى بطلب الماء عمّا فيه شفاء صدره ، ودخل الماء ولم يذق منه شيئاً مع شدّة اُوراه واستعار قلبه ، مواساة لأخيه الإمام الحسين (عليه السلام) ، كلّ ذلك وهو راض بما عنده من الماء ، مؤمّلاً إيصاله إلى الأطفال الّذين تصاعد صراخهم من ألم العطش نحو السّماء ، وعلا بكاؤهم لشدّة الظمأ في اجواء كربلاء ، وحين عرف الأعداء انشغال العبّاس بالماء عن مقاتلتهم ، انتهزوا الفرصة ، وجنّدوا كلّ طاقاتهم للتخلّص من بأسه ، لأنّهم كانوا يعلمون بأنّه لو تفرّغ العباس لقتالهم ، لأتى على آخرهم .
وكانت المصيبة الكبرى ، والرزيّة العظمى ، حين كمن له أحد الأشقياء وراء نخلة ، وغدر به بضربة مفاجئة قطع بها يمينه ، ثمّ كمن له شقي آخر فقطع يساره ، وكان الخَطْب الأعظم ، والبلاء الجلل ، عندما أصيبت القربة بسهم وأريق ماؤها ، عندها تحيّر أبوالفضل العباس (عليه السلام) : فلا ماء عنده حتى يوصله إلى الأطفال العطاشى الّذين ينتظرون قدومه بالماء ، ولا يدَين عنده حتّى يحارب بهما ، وحيث خابت آمال أبي الفضل (عليه السلام) ، وأيس من تحقيق أمانيّة ، وبلوغ مآربه ، جازاه الله عن ذلك لا خلاصه ، وعوّضه بها لوفائه بأن جعله باباً للحوائج إليه في الدّنيا ، فما أمّه أحد بحاجة إلاّ ورجع مقضياً حاجته ، مستجاباً دعائه ، ووهبه جناحين في الآخرة يطير بهما في الجنّة حيث يشاء ، وأعطاه مقاماً هناك يغبطه به جميع الشّهداء .
الخصائص العباسية