۞ سر من أسرار سورة الحمد ۞
لابدّ حينئذٍ من تجسيم العبادات بالحبّ والعشق بين العبد ومولاه، فمن طريق العبادة يصل الإنسان إلى مقام الفناء في إرادة الله والبقاء به، وتكون حياته طيبة كما أراد الله ورسوله في دعوتهما﴿ اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ﴾، فيتحّول العبد في جوهرة عبوديته إلى مقام المثل الأعلى لله سبحانه، بأن يتجلى الله فيه بأسماءه الحسنى وصفاته العليا . كما ي الحديث القُدسي عن الله سبحانه (عبدي أطعني حتى أجعلك مَثَلي، أقول للشيء كن فيكون، وتقول للشيء كن فيكون)، فأنزل الله سورة الحمد لبيان العلاقة بين العبد وربّه، بدواً بالبسملة والحركة من البداية حتى النهاية، كسفينة نوح ﴿بِاِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا﴾، وأنّ الخلق كلّه إنّما هو مرآة للبسملة، كما جمع ما في الحمد في البسملة، فالله تجلّى في كتابه، كما تجلّى في خلقه بخلقه.
ثم سورة الحمد في قسمين: كما ورد في الحديث الشريف: قسم لله سبحانه من البسملة وإلى ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ ثم من ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾إلى ﴿وَلا الضَّالِّينَ﴾ إنّما هو قسم العبد، فالآيات الأربع الأولى، هو تخطيط وترسيم الله سبحانه لعبده، فإن الحركة والعمل بالبسملة، فإنّ كل أمرٍ ذي بالٍ لم يبدء بالبسملة فهو أبتر، ثم بعد البسملة فإنّ الحمد كله إستغراقاً للّه، سبحانه، فهو الجمال المطلق والكمال المطلق وهو رب العالمين، ربّ الناس ومَلِك الناس وإله الناس كما في سورة النّاس، وإنه الرحمن للمؤمن والكافر في الدنيا، وإنّه الرحيم بالمؤممنين في الدنيا والآخرة.
ثم أيها العبد أنت الذي تعبد الله تشریعاً وتكويناً وحسب، بل كلّ الموجودات في عبادة الله، فإنّه ما من شيء إلّأ ويسبح بحمده وجماله، وإنّما تشرف الإنسان بعبوديته، لأنّها إختيارية، وبحريته اختار الإيمان وعبودية الله سبحانه وحده لا شريك له.
والعبودية تارة تكوينية، فكل شيء ساجد لله سبحانه، وأخرى تشريعية وهي باختيار الإنسان بأن يكون في ظلّ وولاية الله سبحانه أو يكون في ظل وولاية الشيطان ، فيتبع خطواته ويوحى إليه ويأمره بالفحشاء والمنكر، فإمّا أن يكون منحصراً تحت قانون الله وظلّه فيتولاه و يخرجه من الظلمات إلى النور، ويكون مع ممّن أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً في الصراط المستقيم ، أو يكون مع الضالين والمضلّين المغضوب عليهم.
فالعبودية الاختيارية لله سبحانه، يوجب فخر العبد وعزّته، كما في مناجاة أمير المؤمنين علي(ع) (كفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، وكفى بي عزاً أن أكون لك عبداً إلهي أنت کما أحبّ فاجعلني کما تحبّ)
ثم بعد العبودية لله خالصاً ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾، فمن يرفع مشاكلنا والمحن والفتن والبلايا بعد هذا، إنّ هو إلّا الله سبحانه، فبه نستعين، وبما أمرنا بالاستعانة به كالصبر والصلاة ﴿وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾. وإبتغاء الوسيلة إليه ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾.
فمن يستعن بالله إذا استعان بالصبر والصلاة، وبمحمدٍ وآل محمد، فإنّه باعتبار أمر الله، فيكون من الاستعانة به، فالاستعانة بالله بالإصالة وبغيره بالتبع بإذن الله سبحانه ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، لبيان الأول، وفيه مايدل على الثاني.
ثم يطلب العبد بعد ذلك من ربه برنامجاً مستحكماً ورصيناً، وسبيلاً واضحاً وبيّناً، من دون تناقض وتصادم، وأنه يكون حاله بما يرضي ربّه، ويحسن علاقته وإرتباطه بالأسرة وبالمجتمع وبالطبيعة، فيطلب الهداية والإرشاد إلى صراط مستقيم له، لا عوج فيه ولا ميل إلى اليمين والشمال، بل مستقيم كالخط المستقيم، فإنّه أقرب الطرق والخطوط، فليس إلّا بحركة بدوية ثم الوسطية ثم ختم الحركة، فإنّ لله وإنّا إليه راجعون، وإلى ربك المنتهى، وإليه تصير الأمور، فالله يهديه، كما يثبت أقدامه في الصراط، ثم سبحانه في سورة الحمد يعطي لهذا المفهوم العينّية والنموذجيّة والمصداقية والموضوعيّة، فيقول سبحانه ﴿صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ﴾، فمن أطاع الله ورسوله، كان مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً في الدين والدنيا وفي صراط مستقيم.
وهذا كلّه من رحمة الله الرحمانية والرحيمية ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ﴾.
آية الله عادل العلوي قدس سره