قد ذكر المؤرخون كيفية تعامل الإمام مع غلمانه، والذين يعملون ويخدمون عنده، فقد كانت في منتهى العطف والرأفة، ورغم ما يجدُه من مشاكسة بعضِهم، أو إهمال بعضِهم، أو تقصيرهم عن القيام بالمهمَّات التي أُنيطت بهم، إلَّا أنَّه يُقابل ذلك بسعةِ صدرٍ، ورحابة قلب.
- يروِّح غلامه!
يذكر المؤرخون أنَّ الإمام (ع) بعث غلاماً له في حاجة، فذهب الغلام وأبطأ كثيراً، فخرج الإمام (ع) يبحثُ عن هذا الغلام، فوجده نائماً في ناحية، فما أزعجه وما أيقظه، بل وجد عليه آثار الإرهاق -نتيجة الحر- فأخذ يُروِّحه! وبعد أن اكتفى ذلك الغلام واستيقظ، تبتسم الإمام (ع) في وجهه، وقال له: يا غلام، لك الليل، ولنا النهار. دون أن يُوبِّخه ويُقرِّعه كما يفعل أربابُ العمل. فكان ذلك مثالاً ينبغي أن يَحتذي به كلُّ من كان تحت يده مستأجَرون يعملون عنده.
- إبنه والجارية
ثمَّة موقفٌ آخر يُعبِّر عن سعة صدر الإمام (ع) بأكثر مما يُعبِّر عنه الموقف الأوَّل: فقد رُوي انَّ الإمام (ع) كان قد نهى نساءه وجواريه أنْ يصعدن إلى السطح -سطح البيت-، ولعلَّ ذلك مبالغةٌ منه في الستر والحجاب، واتَّفق في إحدى المرَّات خروج الإمام (ع) من مجلسه إلى فناء داره فوجد جاريةً تصعد إلى السطح، حاملةً أحد أولاده، فلمَّا أنْ رأته فزعت، فسقط الغلام من يدها نتيجةَ شعورها بالهلع والخوف، وأدَّى سقوط الغلام من يدها إلى موته، فأخذ الإمام يُهدِّئ من رَوْع الجارية ثم عاد إلى مجلسِه وقد بدا على وجهه أثر الوجوم-، ثم أخبر أصحابه بما وقع، ثم قال : والله ما حزنت على موت الغلام؛ فذلك أجلُه قد حان فرحل إلى ربِّه، ولكنَّ الحزن الذي انتابني هو إنَّي كنتُ سبباً في دخول الرُّعب والخوف إلى قلب تلك المرأة الضعيفة!. فرغم أنَّ ابنه الصغير قد مات، وكان موته مسبَّباً عن تقصيرِ تلك الجارية، إلَّا أنَّه سلَّم لربِّه، وفوَّض أمره لخالقه -عزَّ اسمه وتقدس-. وما صدر منه تعنيفٌ لتلك الجارية بل شعر بالحزن الشديد حتى ظهر على محيَّاه لأنَّه ربَّما كان سبباً في دخول والفزع والخوف إلى قلب تلك الجارية!
نحن شيعته -شيعة أبي عبد الله الصادق-، وفي كلِّ يومٍ نملأ قلوب المؤمنين غيظاً، ونُدخل عليهم الوهن، والحزن والأذى؛ نتيجة تصرُّفاتنا معهم، ونتيجة ألفاظنا البذيئة التي نواجههم بها، أو نتيجة ما نُمارسه من حماقات أو سلوكياتٍ تُوجب إشمئزازهم، أو حزنهم!
- مَلَكة راسخة
ثمَّة موقفٌ آخر -يُشبه هذا الموقف-، وقد عالجه الإمام(ع) بذات الأسلوب، فالمواقف التي يتَّفق للإمام مصادفتها تختلف في طبيعتها، إلَّا أنَّ ردة الفعل التي يُبديها الإمام (ع) تظلُّ ذاتَ نسقٍ واحد، وذلك ما يُعبِّر عن أنَّ الحلم الذي ينطوي عليه قلبُ الإمام (ع) كان سجيَّةً وملكةً راسخة ولم يكن تصنُّعاً، أو تكلَّفاً؛ لأنَّ المُتكلِّف قد يتزيَّا بصفةٍ في ظرفٍ ما لكنَّه لا يقوى على تقمُّصها في تمام الظروف، وفي كلِّ الأحوال ذلك لأنَّها لم تكن سجيَّةً راسخة في جِبلَّته ولهذا تتغيَّر مواقفُه وردةُ فعله بتغيُّر الظروف والأحوال، لكنَّ ما نجدُه فيسلوك الإمام (ع) هو التجانس بين مواقفه تجاه مختلف العوارض التي يتَّفق له مصادفتها فرغم تفاوتِها في القسوة والشدَّة إلَّا أنَّ ردَّة الفعل التي يُبديها الإمام (ع) تبقى محتفظة بنسَقٍ واحد.
امرأةٌ من خدم الإمام -أو من جواريه، أو من نسائه، والتشكيك مني- كانت تشوي لحماً بواسطة السَّفُّود -السفود هو الحديدة التي يُوضع عليها اللحم لغرض شوائه-، هذه الجارية رفعت هذه السفافيد، وفي أثناء حملها لها -وكانت ثقيلة- سقطت بأكملها على رأس صبيٍّ للإمام -كان صغيراً يدرج على الأرض-، فمات من حينه. فما كان منه إلَّا أنَّه حاول أنْ يطمئنها، ويهدِّئ من روْعِها، ويُؤكد لها أنَّه لن تترتَّب على ذلك أيُّة عقوبةٍ منه عليها، ثم أخذ الصبيَّ ومضى به إلى المقبرة ودفنه.
مركز الهدى للدراسات الاسلامية