اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن التوسم يساعد على معرفة كثير من الأشياء التي تخص الإنسان وغيره حيث انه يعرف حقائق البشر وذلك من عدة موارد منها العلامات الظاهرة في الإنسان وصفاته الخارجية أو عن طريق كشف مكنون ما يضمر في نفسه خير هو أم شر أو عن طريق مقارنة الشيء الواقع بالأثر الذي يتركه وربط بعضه بالبعض الآخر .
وكذلك التوسم بالأحداث الكونية والأرضية الطبيعية وغيرها والتي لها أثر في الملكوت من قبيل حركات النجوم وأحداث الكون والمجرات والكواكب وكذلك الأحداث الأرضية بدءاً بالرياح وانتهاءاً بالبراكين والأعاصير والزلازل فكل حدث له معنى في علم التوسم .
والآن سنأتي إلى موارد التوسم والتي من خلالها يعرف المتوسمون سيماء الآخرين ، وهي كالآتي :
1- التوسم بالعلامات والصفات الخارجية للإنسان :
هنالك صفات خارجية وعلامات في المظهر الخارجي للإنسان تدل على سيمائه وما هو عليه من صلاح أو فساد كمعرفة العيون الكبيرة ماذا تعني والعيون الصغيرة ماذا تعني والأنف ماذا يعني .
وكذا بالنسبة إلى موقع الشامات في الإنسان إلى غير ذلك ، وكل منها له ارتباط بصفة معينة موجودة في ذلك الإنسان .
وقد دلت الكثير من الروايات والحوادث التاريخية المتعلقة بسيرة أهل البيت (عليهم السلام) وأصحابهم وأعدائهم على وجود مثل هذه العلامات وإنها ترسم شخصية الإنسان وما يكون في باطنه فضلاً عن ظاهره .
ولنأتي أولاً إلى وجه الإنسان وغالباً ما يتركز التوسم على الوجه الذي يكون بمثابة المرآة التي تعكس صورة وما يختلج في داخله من أحاسيس ومشاعر وما هو عليه كأن يكون صالحاً أو طالحاً وهكذا ، وإليك جملة من الأمثلة التي تؤكد هذا المعنى .
المثال الأول :
هو قصة وفد اليمن الذين قدموا إلى المدينة ، فقال عنهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) : ( إنهم قوم رقيقة قلوبهم راسخ إيمانهم منهم المنصور يخرج في سبعين ألفاً ينصر خلفي وخلف وصيّ حمائل سيوفهم المسك ) بحار الأنوار ج36 ص112 ، غيبة النعماني ص39 .
وهو أيضاً من التوسم .
فالشاهد هنا هو إن أهل اليمن لما سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) عن وصيه أشار إليهم إن وصيه هو من جعله الله آية للمتوسمين وإنهم إذا تصفحوا الوجوه عرفوه :
( فقالوا يا رسول الله بالذي بعثك بالحق أرناه فقد اشتقنا إليه فقال هو الذي جعله الله آية للمتوسمين فإن نظرتم إليه نظرة من كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد عرفتم إنه وصيي كما عرفتم إني نبيكم ، تخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه فمن أهوت إليه قلوبكم فإنه هو لأن الله عز وجل يقول في كتابه {وجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ } إليه وإلى ذريته (عليهم السلام) قال : فقام أبو عامر الأشعري .... فتخللوا الصفوف وتصفحوا الوجوه وأخذوا بيد الأنزع الأصلع البطين وقالوا إلى هذا أهوت أفئدتنا يا رسول الله ) بحار الأنوار ج36 ص112 ، غيبة النعماني ص39.
وفي هذا النص إشارة واضحة على التوسم عن طريق الوجه بلحاظ ما أشار به رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) من تصفح الوجوه والنظر إليها سبيلاً إلى معرفة الشخص المطلوب وهو الإمام علي (عليه السلام) ، وفعلا فإنهم تصفحوا الوجوه وتوسموا في أمير المؤمنين (عليه السلام) إنه هو الوصي.
ومن الجدير بالذكر هنا إلى نكتة مهمة وهي أن التصفح بذاته ليس هو السبيل الوحيد إلى معرفة هذا الشخص أو ذلك بالنظر بواسطة البصر .
إنما المهم هو النظر عن طريق القلب والبصيرة وإن القلب وما يشعر به له أثر في التوسم كما هو حال البصر والبصيرة لأن التوسم إنما يكون بالنظر بنور الله ومركز النور هو القلب وعليه فإن للقلب التأثير الأكبر في التوسم ومعرفة الأشياء حتى دون النظر إليها وإلا هنالك أشياء قد يتوسم فيها الإنسان بقلبه وما يحس به من بواطن الأشياء دون ظاهر .
وكما قيل فإن هذه المضغة التي في الإنسان وهي القلب إذا صلحت صلح الإنسان وإذا فسدت فسد .
وعليه فقد يكون التصفح بالقلب وبالإحساس فضلاً عن البصر.
والشيء الآخر المهم هو ما يتعلق بأمير المؤمنين (عليه السلام) بالذات وإنه هو ذاته آية وعلامة للمتوسمين بحيث إن المتوسمين يعرفونه بل يعرفون الحق عن طريق النظر إليه ومعرفته وإنه سمة من سمات المؤمنين التي يوسمون بها ومن هنا قيل في الحديث الشريف :
( النظر إلى وجه علي عبادة ) .
المثال الثاني :
هو الرواية التي تصف أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام) بأن سيماهم في وجوههم من أثر السجود مصداق قوله تعالى {ترَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ} الفتح29 .
فقد روي عن الطرماح في معرض رده على معاوية بن أبي سفيان (عليه اللعنة) إنه قال : ( لو بلغت باب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لوجدت ....رجالاً سيماهم في وجوههم من اثر السجود ....) بحار الأنوار ج23 ص291 .
وفي هذه الرواية إشارة إلى التوسم عن طريق الوجه وما يتركه من أثر في جباههم وليس المقصود في التوسم بأثر السجود هو الأثر المادي إنما هي علامة يتركها السجود في جباههم مما يظهر على وجوههم من ملامح التعب والسهر وصفار الوجه الكافي ج5 ص13 .
ولما سأل عبد الله بن سنان الإمام الصادق (عليه السلام) عن قول الله عز وجل { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ } قال: ( هو السهر في الصلاة ....) روضة الواعظين ج2 ص321.
المثال الثالث :
إن أئمة أهل البيت (عليهم أفضل الصلاة والتسليم) يتوسمون ويعرفون المحبين لهم من المبغضين من ألوانهم ، فقد ورد عن عبد الله بن سليمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) : ( قال إن الإمام إذا أبصر إلى رجل عرفه وعرف لونه ...) الكافي ج1ص438، بحار الأنوار ج24ص124 .
وإن الله سبحانه وتعالى جعل من وراء إختلاف اللون حكمة ، ومصداق ذلك قوله تعالى {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السماوات وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ} الروم22.
المثال الرابع :
من أمثلة التوسم بالوجه هو ما يتعلق بالعيون ، فالعين هيئتها وشكلها وما إذا كانت صغيرة أم كبيرة لها توسم خاص بها .
ومن سيماء المؤمنين إنهم عُمش (عمش في اللغة من عمش ، يقال رجل أعمش وامرأة عمشاء أي لا تزال عينها تسيل دمعاً ولا تكاد تبصر بها . والعمش ضعف العين مع سيلان دمعها في أكثر الأوقات ) لسان العرب ج6 ص320 ، كتاب العين ج1 ص276.
روي عن نوف البكالي إنه قال لأمير المؤمنين علي (عليه السلام) : ( صف لي شيعتك ، فبكى (عليه السلام) ثم قال : شيعتي والله الحلماء الحكماء .... عمش العيون من البكاء....) أعلام الورى ص144 .
وهذه الرواية تصف سيماء شيعة الإمام علي (عليه السلام) وهو ضعف بصر العين لشدة البكاء وكثرته وتعب العين من ذلك وظهور ذلك الأثر على مظهرها عند النظر إليها..مستدرك الوسائل ج1 ص124 ، مجمع البحرين ص144.
المثال الخامس :
من أمثلة التوسم بالعين وهو إن من سيماء المجرمين إنهم زرق العيون ، فقد ورد في تفسير قوله تعالى {يعرف المجرمون بسيماهم} أي بعلاماتهم وهي (سواد الوجوه وزرقة العيون...) بحار الأنوار ج7 ص81 .
وزرقة العين هي من سيماء قتلة الإمام الحسين (عليه السلام) وأبنائهم وأبناء أبنائهم ، فقد ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) إنه قال :
( ...خذوهم بسيماهم بزرقة الأعين وسواد الوجوه خذوا بنواصيهم فألقوهم في الدرك الأسفل من النار .....) تفسير فرات ص446 .
المثال السادس :
إن من سيماء شيعة أهل البيت (عليهم السلام) هو إنهم غرّ محجلين ، والغرّ جمع الأغر من الغرة وهو بياض الوجوه بنور الوضوء كما قيل(بحار الأنوار ج28 ص28 ، ج65 ص25 ، دعائم الإسلام ج1 ص100) .
علماً إن بياض الوجوه بنور قد يكون أعم وأشمل من نور الوضوء بل هو نور الإيمان الساطع من جباههم .
وفي التوسم هو الخط الذي يرى ظاهر في جبهة الإنسان من وسط الجبهة إلى ما بين عينيه . وهي سيماء الخلص من شيعة الإمام علي (عليه السلام) .
فعن عامر بن وائلة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) أنه سأله ابن الكواء عن المقصود بقوله تعالى {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية} فقال (عليه السلام) : ( ....رفع صوته ويحك يابن الكواء أولئك نحن وأتباعنا يوم القيامة غراً محجلين رواء مرويين يعرفون بسيماهم ) بحار الأنوار ج36 ص190 ، سعد السعود ، ص108 .
المثال السابع :
إن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) عندما يتوسمون بوجه الشخص الداخل إليهم لا تكون معرفتهم به وتوسمهم عن طريق العلامات الظاهرية في الوجه ، بل هنالك علامات باطنية للوجه لا يعلمها أو يراها إلا أهل البيت (عليهم السلام) ومن اتصل بهم من أوليائهم وخواصهم وبها يعرفون محبهم من مبغضهم .
فقد ورد عن عبد الرحمن عن ابن كثير إنه سأل الإمام الصادق (عليه السلام) فقال : ( قلت جعلت فداك هل تعرفون محبيكم ومبغضيكم ؟ قال ويحك يا أبا سليمان إنه ليس من عبد يولد إلا كتب بين عينيه مؤمن أو كافر ، وإن الرجل ليدخل إلينا بولايتنا وبالبراءة من أعدائنا فنرى مكتوباً بين عينيه مؤمن أو كافر ، قال الله عز وجل {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} نعرف عدونا من ولينا) بحار الأنوار ج24 ص123 .
وفي رواية أخرى عن عمار بن أبي مطرف عن أبي عبد الله الصادق (عليه السلام) قال : ( سمعته يقول : ما من أحد إلا ومكتوب بين عينيه مؤمن أو كافر محجوبة عن الخلائق إلا الأئمة والأوصياء فليس محجوب عنهم ثم تلا {إن في ذلك لآيات للمتوسمين} ....وليس والله أحد يدخل علينا إلا عرفناه بتلك السمة ) بحار الأنوار ج24 ص147 .
وذلك إن الله سبحانه وتعالى وسمهم بتلك السمة منذ عالَم الذر لأنه عالِم بحالهم ومن هو المؤمن منهم والكافر بالميثاق الذي أخذه الله سبحانه وتعالى عليهم في تلك النشأة من الإقرار بوحدانيته والإقرار بنبوة الرسول محمد (صلى الله عليه وآله وسلم تسليما) والإقرار بولاية الإمام علي بن أبي طالب والأئمة من ولده (صلوات الله عليهم أجمعين) .
ووسمهم بهذه السمة من الإيمان والكفر كلٌ حسب إقراره في عالم الذر بهذا الميثاق فمن أقر فيه فهو مؤمن ومن لم يقر به ورفضه فهو كافر .
ومن هنا يتضح وكما سبق وأن بينا ارتباط التوسم بعالم الملكوت وإن له أصلاً ترجع إلى عالم الذر أو الملكوت له انعكاسه وتأثيره في عالم الوجود أو التكوين أي في هذه الحياة الدنيا .
وقد أكد مولى الموحدين وأمير المؤمنين وقائد الغرّ المحجلين أسد الله الغالب علي بن أبي طالب (عليه السلام) هذا المعنى في قوله : ( ما أضمر أحد شيئاً إلا ظهر في فلتات لسانه وصفحات وجهه ) نهج البلاغة ج4 ص7 .
يتبع....