بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على النبي الأمين وآله الطيبين الطاهرين واللعنة الدائمة على أعدائهم أجمعين الى قيام يوم الدين..
وبعد: القداسة لغة: من قَدُس قَدساً وقُدساً وقُدُساً طَهُرَ وتبارك، قدَّس الله فلاناً طَهَّر وبارك عليه وفي التنزيل «نحن نسبح بحمدك ونقدس لك» أي ونطهر أنفسنا لك، المنجد باب قدُس.
وبلحاظ المعنى اللغوي نستشف القداسة هي الطهارة، وقد ورد في القران الكريم بمواضع عدة، قال تعالى في حق مريم ابنة عمران عليها السلام: (إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ) آل عمران:42.
فمريم المقدسة أي المطهرة بتطهير الله سبحانه اياها من الآثام والذنوب الأدناس والعادات النسائية. تقريب القرآن، الإمام الشيرازي الراحل، المجلد الأول ص338.
وقال تعالى: (مَا يُرِيدُ اللّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِنْ حَرَجٍ وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون) المائدة:6 أي ينظفكم من الأدران والأوساخ الظاهرية والباطنية إما بتطهير الغسل والوضوء من الأدران فظاهر، وإما تطهير التيمم فقد ثبت في العلم الحديث أن التراب يقتل الجراثيم بمرتبة أضعف من الماء. نفس المصدر:ص612.
الطهارة لطف خاص:
قال تعالى: (أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ) المائدة:41، من الكفر، فلم يلطف بهم اللطف الخاص ـ كما يلطف بسائر المؤمنين ـ حتى تتطهر قلوبهم من أدران الكفر، إن الله سبحانه بين لهم الدلائل ونصب لهم الحجج لكنهم أبوا من الرضوخ ولذا قطع الله تعالى لطفه عنهم. (المصدر نفسه ص642).
فالله سبحانه وتعالى لم يرد للكافرين بما هم كافرون أن يتطهروا واراد ذلك للمؤمنين وقد ورد في القرآن آيات دالة على ذلك منها قوله تعالى: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا) التوبة:103، وقال تعالى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُوا وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ) التوبة: 108.
وكذلك قوله تعالى: (وَلكِن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ) المائدة:7، وغيرها من الآيات الكريمة.
إذاً تبين مما تقدم أن الله سبحانه أراد للمؤمنين بلطفه الخاص أن يتطهروا وأوضح الطرق لذلك فلكل يغترف بمقدار عزيمته، لذلك تتفاوت درجات المتطهرين ولربما وفق درجات الطهور.
الطهور ومراتبه الأربعة:
ذكر سماحة العلم المولى الجليل محمد مهدي النراقي في جامع السعادات ج3 منشورات الاعلمي ص310 ، للطهور مراتب أربع:
الاولى: تطهير الظاهر من الاحداث والاخباث والفضلات.
الثانية: تطهير الجوارح من الجرائم والآثام والتبعات.
الثالثة: تطهير القلب من مساوئ الاخلاق ورذائلها.
الرابعة: تطهير السر عما سوى الله تعالى، وهي (المرتبة) تطهير الانبياء والصديقين.
والطهارة في كل مرتبة من المراتب اعلاه نصف العمل الذي فيها، اذ الغاية القصوى في عمل السر أن ينكشف له جلال الله وعظمته، وتحصل له المعرفة التامة، والحب والانس، ولا يمكن حصول ذلك مالم يرتحل عنه ما سوى الله ولذلك قال تعالى:« قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ» الانعام:91، فإن الله وغيره لا يجتمعان في قلب واحد:« مَّا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ» الاحزاب:4.
فتطهير السر عما سوى الله نصف عمله، والنصف الآخر شروق نور الحق فيه، والغاية القصوى في عمل القلب عمارته بالأخلاق المحمودة، والعقائد الحقة المشروعة، ولا يتصف بها ما لم ينظف عن نقائضها من الاخلاق المذمومة والعقائد الفاسدة انتهى كلامه أعلى الله مقامه.
ويُذكر من السر في الطهارة كلام إمامنا الصادق عليه السلام حيث قال: ( اذا اردت الطهارة والوضوء، فتقدم الى الماء تقدمك الى رحمة الله، فإن الله ـ تعالى ـ قد جعل الماء مفتاح قربته ومناجاته، وليلاً الى بساط خدمته، وكما ان رحمة الله تطهر ذنوب العباد كذلك النجاسات الظاهرة يطهرها الماء لا غير قال تعالى: «وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّماءِ مَاءً طَهُوراً » الفرقان:48.
إفاضات روحية وطهارات معنوية:
ذكرنا سابقاً ان مرتبة تطهير السر عما سوى الله سبحانه مرتبة الانبياء والصديقين وهي مرتبة متفاوتة ايضاً فتختلف منازل الأنبياء لذلك، وواقعاً يأتي الرسول الاعظم صلى الله عليه وآله في قمتها وله السيادة على جميع مصاديقها ومن بقية الانبياء والصديقين وهكذا، ومن ثم من يصل الى المراتب المتقدمة من الطهارة المعنوية فالتأكيد تأثيره في المحيط واضح بإفاضته القدسية فهو طاهرُ روحاً وجسداً ومن ثم تسرى طهارته الى ما يباشره نقرأ في زيارة الامام الحسين عليه السلام المخصوصة وفق راي الشيخ المفيد وابن طاووس لليوم الاول من رجب وليلة النصف من شعبان كما اورده المحدِّث القمي في مفاتيح الجنان:«اشهد أنك طُهر طاهر مُطهرّ من طُهرٍ طاهر مُطهر طهُرت وطهًُرت بك البلاد وطهُرت أرضٌ انت بها وطهر حرُمك» فكربلاء قدست بسيد الشهداء الحسين عليه السلام وكذا المدينة المنورة برسول الله صلى الله فهي حرمة صلوات الله عليه وآله ومدينة النجف بامير المؤمنين عليه السلام فهي حرمه والكاظمية بالكاظميين عليهما السلام وسامراء بالعسكريين ومشهد الرضا به عليهم صلوات الله وسلامه وهكذا قدست بعض البلاد بل واصبحت مصادر القدس والطهارة وتختلف قداسة المدينة او البلد بمدى افاضة المطهر لها فتتفاوت وفق ذلك طهارتها.
قم وقداسة السيدة المعصومة:
المعصومة أي المطهرة وبلحاظ الاحاديث الشريفة الواردة بحق السيدة الجليلة فاطمة المعصومة عليها السلام نستشف المكانة السامية التي تميزت بها بل انها جعلت من موضع قبرها وهو مدينة قم حرم اهل البيت عليهم السلام فقد روي في تاريخ قم عن عدة من اهل الري انهم دخلوا على ابي عبد الله عليه السلام وقالوا: نحن اهل الري (طهران الحالية)، فقال عليه السلام: مرحباً بإخواننا من اهل قم، فقالوا: نحن من اهل الري، فاعاد الكلام، قالوا ذلك مراراُ وأجابهم بمثل ما اجاب به اولاً، فقال عليه السلام ان لله حرماً وهومكة وان للرسول حرماُ، وهو المدينة وان لامير المؤمنين حرماً وهو الكوفة وان لنا حرماً وهو بلدة قم، وستدفن فيها أمرأة من اولادي تسمى فاطمة فمن زارها وجبت له الجنة، قال الراوي: وكان هذا الكلام منه عليه السلام قبل ان يولد الكاظم عليه السلام. البحار ج60 ص216ج41 باب 36 نقلاً عن منتهى الآمال للمحدث القمي ص380.
وروى القاضي نور الله في مجالس المؤمنين عن ابي عبدالله الصادق عليه السلام انه قال: ان لله حرماً وهو مكة وان لرسول الله حرماً وهو المدينة إلا وان لامير المؤمنين حرماً وهو الكوفة الا وان قم الكوفة الصغيرة، ألا ان للجنة ثمانية ابواب ثلاثة منها الى قم ، تقبض فيها امرأة من ولدي اسمها فاطمة بنت موسى وتدخل بشفاعتها شيعتي الجنة بأجمعهم. البحار ج60 ص268 ج59 والعوالم ج21 ص330.
وفي رواية عن الامام علي بن موسى الرضا عليه السلام قال لسعد الاشعري القمي: يا سعد عندكم لنا قبر، قلت له: جعلت فداك قبر فاطمة بنت موسى عليه السلام، قال: نعم من زارها عارفاً بحقها فله الجنة. ج102 ص265.
وبذا نستشف مدى القدس والطهارة لهذه البقعة الموجبة لمن زارها الجنة ـ فالمقتضي موجود كما يعبرون شرط رفع المانع ـ لذا فإن قبرها الطاهر اليوم زاد الله في شرفه ذو قبة عالية وضريح وصحون متعددة وخدم وموقوفات كثيرة وهي قرة عين اهل قم وملاذ الناس ومعاذهم بحيث تُشد اليها الرحال من الاماكن البعيدة لاقتباس الفيض وتحصيل الطهارة الروحية، ذلك الفيض الذي قدس مدينة، فالسيدة المعصومة كريمة قدست مدينة.
والحمد لله رب العالمين. [/align]
[align=center]منقول من موقع الشيرازي نت[/align]
