
[align=center]إنّ عباد الله المخلَصين حين يرحلون عن الدنيا، فإنّهم لايتوقّفون عند البرزخ، وليس لهم حشر ولا حضور عند القيامة، ولا تؤثّر شيئاً في أيّ منهم الصيحة البرزخيّة الاُولي (صور الإماتة) ولاالصيحة الثانية (صور الإحياء)، لانـّهم عبروا هذه المراتب والدرجات، ووردوا في عالم أعلي من عالم البرزخ وعالم الحشر والنشور والحساب والكتاب والعرض والسؤال، وتحقّق وجودهم وسرّهم بحقيقة وجه الله، حيث لا سبيل هناك للموت والبوار والفناء والعدم.[/align]
[align=center]وبطبيعة الحال فإنّ هذه المقامات والدرجات خاصّة بالمخلَصين (بفتح اللام علی اسم المفعول) لا المخلِصين (بكسر اللام علی اسم الفاعل) لانّ المخلِصين (بالكسر) هم الذين خطوا خطواتهم سالكين في مقام مجاهدة النفس الامّارة في طيّ طريق القرب والخلوص والفناء، إلاّأنّ وجودهم وسرّهم ـ مع ذلك ـ لم يتمحّض ويخلُص تماماً، ومجاهدتهم لمتنتهِ بعدُ، فهم لا يزالون في جدال ونزاع ومجاهدة مع النفس الامّارة والشخصيّة والانانيّة وفي صفوف ومراحل مختلفة من وادي السير والسلوك هذا.[/align]
[align=center]أمّا المخلَصين (بالفتح) فقد انتهت مراحل مجاهدتهم ونالوا مقام الطهارة والنزاهة، سواء الطهارة في مقام الفعل أو في مقام الاخلاق والملكات والصفات، أو في مقام السرّ والذات. فقد اجتازوا جميع هذه المراحل، ووردوا في حرم الله طاهرين مطهّرين، ووصلوا إلی مقام الفناء في ذات الحضرة الاحديّة. وَلاَ يَمْلِكُونَ لاِنفُسِهِمْ نَفعاً وَلاَ ضَرّاً وَلاَ مَوْتاً وَلاَحَياةً وَلاَ نُشُوراً.[/align]
[align=center]فلا وجود لهم بعدُ ليُصيبه صعق الموت وفزعه، ولم يبق فيهم أيّ شيء من الإنّيّة ليحتاجوا إلی حساب وكتاب، فلقد أنهوا حسابهم وكتابهم في الدنيا حين سلكوا بخطوات صادقة، ثابتة طريق لقاء المعبود، ثمّ خطوا بعد الموت الطبيعيّ الدنيويّ في جنّة الخُلد وجنّة الذات، منعّمين بنعم لقاء وشهود جمال وجلال الحضرة الاحديّة.[/align]
[align=center]فَأُولَـ'ئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ.[/align]
[align=center]نعم، إنّ أحوال ومقامات المخلَصين لا تتّسع لها صدور غيرهم من أفراد البشر، لانّ ثواب ونتائج أعمالهم لا تخطر علی بال بشر، ويقصر عنها شأن صقر العقل البعيد التحليق، ولا تدركها ولا ترقي إليها أفكار العقلاء والعلماء، كما أنّ عُقبان الفكر والفطنة والدراية، بأجنحتها القويّة المتينة، لو رامت استنشاق نسمة من تلك الحالات والمقامات لحبطت وعجزت.[/align]
[align=center]وحين لا يكون لهم من جزاء إلاّالذات المقدّسة للمعبود جلّ وعلا، فكيف ستكون درجاتهم ـ والحال هذه ـ في مستوي فهم وعلم البشر وفي وسع الفكر والعقل؟
نُقل عن «التفسير الصغير» للفضل بن الحسن الطبرسيّ أنـّه قال: جاء في حديث:
يقول الله تعالي: أَعَدْدَتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ، وَلاَأُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ علی قَلْبِ بَشَرٍ؛ فَلَهُ مَا أَطْلَعْتُكُمْ عَلَيْهِ. اقْرَأُوا إِنْ شِئتُمْ: «فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآأُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ».
وعن «أسرار الصلاة» للشهيد الثاني علی بن أحمد العامليّ، عن الصادق عليه السلام أنّ رسول الله صلّي الله عليه وآله قال:
قَالَ اللَهُ: لاَ أَطَّلِعُ علی قَلْبِ عَبْدٍ، فَأَعْلَمُ فِيهِ حُبَّ الإخْلاَصِ لِطَاعَتِي، وَابْتِغَاءِ وَجْهِي إِلاَّ تَوَلَّيْتُ تَقوِيمَهُ وَسِيَاسَتَهُ.
بلي، إنّ المخلصين يمتلكون ـ بنصّ آيات القرآن الكريم وصريحهاـ آثاراً وخصائصَ لا نَصيب للآخرين فيها.[/align]
[align=center]الاُولي: أنـّه بأيّ وجه من الوجوه لا سبيل للشيطان ولا تسلّط ولاقدرة له عليهم؟ وذلك بنصّ الآية القرآنيّة الكريمة:[/align]
[align=center]فَبِعِزَّتِكَ لاَغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ.[/align]
[align=center]وبديهيّ أنّ هذا الاستثناء ليس تشريعيّاً، بل إنّ الشيطان لا قدرة له علی المخلَصين بعدُ، وذلك بسبب اقتدارهم الذاتيّ في مقام التوحيد، فلايمكنه ـ لضعفه وعجزه ـ الوصول إليهم في هذه المرحلة.
بلي، لقد محض المخلَصون أنفسهم وأخلصوها للّه تعالي، لذا فأينما نظروا يرون الله سبحانه تعالي في كلّ الاشياء، وأينما ظهر لهم الشيطان وبأيّ كيفيّة كانت أو صورة فإنّهم ينظرون إلی ذلك الشيء بالنظر الإلهيّ لتكون لهم منه عبرة إلهيّة.
لهذا فقد أقرّ الشيطان منذ الوهلة الاُولي واعترف بعجزه ومسكنته أمام هذه الطائفة وتدرّع دونهم؛ وإلاّ فإنّ ذات الشيطان لإغواء بني آدم، وليسبالذي يرحم أحداً أو يُعرض عن إغواء وإضلال أحد.
الثاني: أنّ هذه الطائفة قد أُعفيت وفرغت من محاسبة الحشر الآفاقيّ ومن الحضور في تلك الساحة والعرصة.[/align]
[align=center]المصدر/ كتاب المعاد[/align]