{ أَوْ كَصَيِّب منَ السَّماءِ فيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبْرقٌ، يَجْعَلُونَ أصَابِعَهُم فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ المَوْتِ واللُه مُحِيطٌ بالكَافِرِينَ يَكَادُ البَرْقُ يَخْطِفُ أبصارَهُمْ كُلَّمَا أضاءَ لهُم مَشَوا فيه وإذا أظْلَمَ عليهم قامُوا ولو شَاء اللهُ لذَهَبَ بِسَمْعِهِم وأبصَارِهِم إنّ اللهَ عَلي كُلِّ شَيء قَدِيْرٌ }
تنوع أمثال القرآن
أمثال القرآن متنوعة جداً...والله استعان بمختلف الأمثال لاجل ايضاح حقائق مهمة لها تأثير بالغ في تربية الإنسان وسعادته.
تارة يمثل الله بالجمادات كما في الآية 17 من سورة الرعد:
{ أنْزَلَ مِنَ السَّماءِ مَاءً فسَالَتْ أودِيَةٌ بِقَدَرِها فاحْتمَلَ السَّيْلُ زبَداً رابياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ في النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةً أو مَتَاع زَبَدٌ مثلُهُ كَذَلك يَضْرِبُ اللُه الحقَّ والبَاطِل.. }
لأجل ايضاح ماهية الحق والباطل استعان القرآن هنا بالتمثيل بالمطر، فانه عندما ينزل من السماء ينزل زلالا طاهراً، الا انه عندما يجري على الأرض يتسخ بالوحل وبما على الأرض من أوساخ، وتتبدل الأوساخ أحياناً إلى رغوة (زبد) وعندما يصل هذا الماء الجاري إلى أودية يفقد رغوته تدريجياً ليرجع إلى زلاله.
والحق والباطل مثل هذا الماء فالرغوة الوسخة بمثابة الباطل والماء الجاري الطاهر بمثابة الحق.
وقد يمثل القرآن بالنباتات كما هو الحال في الاية 24 من سورة إبراهيم:
{ ألَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللهُ مَثَلا كَلِمَةً طَيّبةً كَشَجَرَة طَيّبَة أصلُهَا ثَابِتٌ وفَرْعُهَا فِي السَّماء }
إنّ أبرز مصداق للكلمة الطيبة هو كلمة (لا إله إلا الله) فمثّلها الله بالشجرة الطيبة الخضراء دائماً.
وقد يمثل القرآن بالحيوانات ونموذج ذلك ما جاء في الاية 26 من سورة البقرة:
{ إنَّ اللهَ لا يَسْتَحِي أنْ يَضْرِبَ مَثَلا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا... }
فمثّل هنا بحيوان صغير، كما مثل في سورة العنكبوت الآية 41 بالعنكبوت.
وقد يمثل القرآن بإنسان كما فعل في الآية 171 من سورة البقرة:
{ وَمَثَلُ الّذينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إلاّ دُعاءً ونِدَاءً صُمٌ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ }
مثل الله تعالى الرسول(صلي الله عليه وآله) في الآية بالراعي والكفار بالحيوانات التي يرعاها الراعي.
إنّ أهم سبب لتنوع أمثال القرآن هو تبسيط الفهم وتعميقه عند المخاطبين الأوائل للقرآن وهم العرب الأميون في عهد الجاهلية وكذا المسلمون فإنهم باستثناء عدد قليل منهم كانوا أميين وما كانوا يتمتعون بحظ وافر من الفهم والتعقل.
وما كان بالامكان تفهيمهم المفاهيم القرآنية الا بهذا الأسلوب وبآلية التمثيل التي تجسد المفاهيم القرآنية الرفيعة.
على الجميع وبخاصة العلماء والفقهاء والخطباء و.. ان ينتهجوا منهج القرآن هذا، ليسهلوا على المخاطب إدراك المفاهيم ويؤثروا في نفسه ويجذبوه نحوها.
إنَّ القرآن الذي هو من تجليات الجمال الإلهي هو بنفسه مظهر للجمال الكلامي.
وعلي هذا ينبغي اتباع القرآن في تسهيل الكلام وتنميقه، ونحن نعدُّ هذا أصلا قيمياً.
أولئك الذين تحضي كتابتهم بالتعقيد وصعوبة الفهم ويعدون استخدام اسلوب التسهيل في الكتابة علامة على قلة العلم، هم في الحقيقة انتهجوا منهجاً عكس المنهج الذي سلكه القرآن (1)
نأمل من الجيل الشاب للحوزة العلمية وطلاب الجامعة ان يعدوا سهولة البيان فناً وقيمة ويعدوا صعوبة الكلام وتعقده كعمل الشرح والتفسير الآيات ماضية الذكر(2)
تحدثت عن المنافقين وخطر النفاق، وقد تكون آيات المثل السابق ناظرة إلي مجموعة خاصة من المنافقين; وهذه الايات ناظرة إلى مجموعة أخري من ذوي الوجهين.
إنَّ مثل هؤلاء المنافقين حسب هذه الايات كمثل المسافر الذي يضل في صحراء ويتخلف عن قافلته في يوم ممطر ولا ملجأ يأويه ولا صديق يعينه ولا يعلم الطريق ولا ضوء ينير له الطريق، في وقت ملئت ظلمات الغيوم السماء بحيث لا يصله حتي نور النجوم الضعيف، والسماء ترتعد، والبرق لا يزيده الا خوفاً ودهشة، وذلك لشدة صوت ووقع الرعد والبرق في الصحاري، وكأنّ البرق يريد أن يخطف بصره ويعميه، وخوفه من الرعد يجره لوضع أصابعه في أذنيه وهو مرتجف خوف موت الصاعقة. ان المنافق بمثابة هذا المسافر.
{ ... واللهُ مُحِيطٌ بالْكَافِرِينَ }
لقد فسرت الاحاطة في الاية بتفسيرين: الاول: الاحاطة العلمية لله.
الثاني: إحاطة الله من حيث قدرته.
فاذا كانت الاحاطة بمعناها الاول فالاية تعني أنَّ الله يعلم بالكافرين.
واذا كانت الاحاطة بمعناها الثاني فالاية تعني ان الله قادر علي كل شيء ولا يخرج شيء عن دائرة قدرته.
{ يَكَادُ البَرْقُ يَخْطِفُ أبْصَارَهُم }
وذلك لأنَّ الإنسان إذا اعتاد علي مكان مظلم، ثُمَّ يُسلِّط علي عينه ضوءً قوياً، فانه سيكون حينئذ عرضة للعماء وفقدان البصر.
{ كُلَّمَا أضَاءَ لَهُم مَشَوْا فِيه }
هذا المسافر عندما يشاهد البرق يفرح لأنّه اضاء له الطريق، لكن فرصته لم تدم; لأن الضوء سريعاً ما ينطفئ.
{ وإذا أظْلِمَ عَلَيْهِم قَامُوا }
أي يتوقف المسافر بعد ان انطفئ نور البرق، ويرجع إلي حيرته السابقة.
{ وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وأبْصَارِهِمْ }
شأن المنافق شأن هذا المسافر حيث يفيد من نور الايمان، لكن بما أنّ ايمانه ظاهري لم يستمر إلا لمدة محدودة وما يمضي زمن طويل حتي يفتضح ويغرق تارة أخري في ظلمات ريائه وكفره ونفاقه.
خطابات الآية
1- كيفية ايجاد البرق والرعد والصاعقة
إنّ البرق يحصل اثر اصطدام غيمتين أحدهما تحمل شحنات موجبة واخري شحنات سالبة والاصطدام هذا يولد الضوء المعروف بالبرق، كما ان صوتاً شديداً يحصل اثر هذا الاصطدام يعرف بالرعد. وكلما كانت الغيمتان كبيرتين كان البرق والرعد أعظم; وذلك لكثرة الشحنات المحمولة من قبل كل من الغيمتين.
أمّا الصاعقة فتحصل اثر اصطدام غيمة ذات شحنات موجبة مع مانع ارضي من قبيل الجبل أو الشجرة أو الإنسان، ونتيجة ذلك هي اشتعال الشيء المصطدم به - إذا كان قابلا للاشتعال - وتبدله إلى كومة من الرماد بسرعة مدهشة
ولذلك يقال: إنَّ الصاعقة خطرة علي الإنسان إذا كان في سهل.
ما يلفت الانتباه هنا هو أنَّ بعض الروايات عدت الرعد والبرق نتيجتين لاعمال موجودات ميتافيزيقية، فاعتبرت الرعد أصواتاً للملائكة والبرق من آثار جلد الملائكة للغيوم والسحب(3)
وهذا أمر يتنافي مع المسلمات العلمية للعصر الحاضر، كما ان هذا الاختلاف يطبع تساؤلا في ذهن المتأمّل.
يا تري أي الامرين هو السبب الحقيقي والواقعي للرعد والبرق؟
في الجواب نقول: لا تضاد بين التبرير العلمي والديني لظاهرتي البرق والرعد; وذلك لأنَّ أحد معاني مفردة الملك الواردة في الروايات هو القوي الطبيعية التي خلقها الله، فالجاذبية والسحاب وغيرها من الظواهر الطبيعية التي سميت في الروايات ملكاً.
لقد جاء في رواية أنَّ كل قطرة تنزل من السماء يحتضنها ملك وينزلها إلى الارض (4).
وبهذا التبرير أي اعتبار الجاذبية ملكاً يمكن القول بعدم التضاد بين الرؤي والكشفيات العلمية مع ما ورد في الروايات الدينية، بل ينطبق أحدهما على الاخر وتحل بذلك عقدة التضاد الظاهري بينهما.
2- الاختلاف بين المثلين
المثلان يتعلقان بالمسافر الذي ضل الطريق في صحراء; لكن المسافر في المثل الأول يواجه خطر المجاعة والعطش والافتراس من قبل الحيوانات، أمّا في المثل الثاني فان الأخطار التي تحدق به هي الاعصار والسيول والرعد والبرق والصاعقة. ومن الطبيعي ان تكون شدة الاخطار في المورد الثاني اكثر من المورد الأول وتجعل حياته عرضة للموت بشكل أشد.
يعتقد البعض أنَّ المثلين يحكيان حال طائفة خاصة وهي طائفة المنافقين عموماً، إلاّ أنِّي أري أنَّ كلا من المثلين يحكي حال قسم من المنافقين، فان المنافقين ينقسمون إلى قسمين:
القسم الاول: هم المسلمون الذين ضعف ايمانهم عن مواجهة المطامع المادية والدنيوية مثل المال والجاه والمقام، فلا يهابون الكذب وخلف الوعد ونكث العهد; وصولا لمآربهم الشخصية، فهم في النتيجة (مسلمون ضعيفو الإيمان) امثال ثعلبة بن حاطب الذي تكلمنا عنه في الصفحات الماضية.
والقسم الآخر للمنافقين: هم أولئك الذين لم يدخل الايمان في قلوبهم ابداً وقد تظاهروا به فحسب دون ان يحملوه، وذلك خوفاً من قدرة الإسلام أو طمعاً بمصالح المسلمين، فهم في النتيجة (كفار متظاهرون بالاسلام) أمثال أبي سفيان ومعاوية ومروان.
ومن الواضح أنّ القسم الثاني هم الأعداء اللدودون للإسلام ووجودهم يشكل خطراً علي الإسلام والمسلمين يفوق خطر القسم الاول بمرات، ولذلك نرى أنّ المثل الأول ناظر إلى القسم الأول من المنافقين
والمثل الثاني ناظر إلى القسم الثاني من المنافقين الذين يعدّ خطرهم أشد وأعظم من خطر القسم الأول.
--------------------------------------------------------------------------------
1. يقول الله في الاية 4 من سورة ابراهيم (وَمَا أرْسَلْنَا مِنْ رَسُول إلاَّ بِلسَان قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ) كما قال الرسول(صلي الله عليه وآله)مراراً: «أمرنا ان نكلم الناس علي قدر عقولهم» بحار الانوار 1: 85.
2. الايات 19 - 20 من سورة البقرة.
3. من لا يحضره الفقيه 1: 334، الحديث 9 و 10.
4. من لا يحضره الفقيه 1: 333، الحديث 5