كربلاء مدرسة الانتصار على الذات
إن النفس البشرية هي كل لا يتجزأ، والحقول المختلفة للحياة تتفاعل مع بعضها لتكوّن حياة واحدة مركبة من كافة العوامل.
والثورة هي نتاج كل العوامل التي تتفاعل في الحياة، والضغوط التي تؤثر على النفس، والثورة الرسالية هي التي تستلهم قيمها من قيم الله كثورة سيد الشهداء الإمام الحسين عليه السلام ، وهذه الثورة تؤثر في الحياة الاجتماعية بقدر انعكاسها على النفس البشرية.
فالنفس تصفو بالثورة، والثورة بدورها هي نتيجة الصفاء النفسي، وكما أن الثورة تستهدف إزالة النفاق والفساد الاجتماعي من واقع الحياة، فهي أيضاً تهدف إلى القضاء على النفاق والفساد في النفس البشرية.
الانتصار هو تجاوز الضعف البشري
إن الذين ينتصرون على أنفسهم وضعفهم، ويتغلّبون على ترددهم في الحياة، ويكتشفون ما أودع الله في كيانهم من كنوز العقل والإرادة والضمير الحي النابض، إن هؤلاء منتصرون لا محالة على قوى الشرك والضلالة والجهالة في المجتمع.
والصراع الاجتماعي النابع من إرادة حرة، وضمير إنساني، وعقلية واعية، هذا الصراع يهديه إلى الصراط المستقيم، كما أشار إلى ذلك تعالى: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا )(العنكبوت/69)
وعملية الجهاد أو الصراع هي عملية مواجهة الفساد الاجتماعي، هذه المواجهة التي تقتلع من النفس البشرية جذور الفساد والنفاق والانحراف، ذلك لأن للإنسان قوة خارقة في الخداع الذاتي، فبالرغم من أنه تحمل مسؤولية رفضت السماوات والأرض والجبال تحملها، وأشفقن منها، إلا أن نفسية هذا الإنسان ظلومة كفارة، تحاول أن تحجب الحقيقة عن ذاتها بأن تخدعها وتخدع من حولها.
ولذلك فإن كل إنسان ينطوي في داخله على نسبة كبيرة من النفاق مما يزيد الطين بلة أن موعظة الناصحين، وهداية المؤمنين، وتلاوة آيات القرآن بل وحتى صدمات مآسي الحياة لا تستطيع أن تنتزع من النفس البشرية جذور النفاق، فيبقى الإنسان منافقاً بالنسبة إلى ذاته وغيره، وتبقى جذور الانحراف حية في نفسه، فأنى عادت إليه الحياة الطيبة المترفة عاد منحرفاً عن طريقه.
طبيعة الإنسان كما يرسمها لنا القرآن
ويحكي لنا القرآن الكريم طبيعة الإنسان هذه من خلال الصورة التي يرسمها لنا عن أولئك الذين ركبوا في البحر، وجرت بهم ريح طيبة ففرحوا بها، ثم أحاطت بهم العواصف والأمواج من كل مكان، فتساقطت أمام أعينهم الأوهام ولم يعودوا يشركون بالله شيئاً: (فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ )(العنكبوت/65)
فقبل قليل كانت نفوسهم وقلوبهم وكل وجودهم متوجهاً إلى الله تعالى يستمدون منه العون، ويدعونه مخلصين، ولكنهم سرعان ما ينسون أو يتناسون كل عهودهم ومواثيقهم ليعودوا مشركين!
ويبين لنا القرآن ما هو أغرب من ذلك عندما يرى الإنسان بأم عينه أهوال الموت، وفظائع القبر، ثم عذاب الله يوم القيامة، ومع ذلك فإنه لو أعيد إلى الدنيا لعاد إلى ما كان يفعله سابقاً من ذنوب. قال الله تعالى: (وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ )(الانعام،27-28).
وهذه هي طبيعة النفس البشرية وطغيانها، فكيف يمكننا القضاء على هذا النفاق والخداع أو الطغيان النفسي؟
لا يمكننا ذلك إلا من خلال خوض الصراع والجهاد، فبواسطة المحاولات المتكررة والمستمرة يتم تغيير الحياة وإصلاحها، ويتم للإنسان التغلب على طغيان نفسه. فالملاحظ أن الناس كلما اسقطوا صنماً حجرياً قائماً في الحياة الاجتماعية فإنهم يسقطون بموازاته صنماً من الأخلاق الفاسدة في أنفسهم، فعندما نحارب طاغوتاً، أو نظاماً فاسداً، أو مؤسسة اجتماعية منحرفة فإننا نحارب بقدرها وبموازاتها طغياناً وانحرافاً في أنفسنا، وصنماً قائماً في ذواتنا.
ولا يمكن للإنسان أن يقول في البدء أن عليه إصلاح نفسه، وإسقاط الطواغيت المتراكمة داخل ذاته كالخوف والكسل والفشل والجبن، ومن ثم يقضي على طاغوت الإلحاد والفساد في المجتمع، ذلك لأن العملية تفاعلية، ففي كل خطوة يجب علينا القضاء على طاغوت في أنفسنا في نفس الوقت الذي نقضي فيه على طاغوت في المجتمع.
الإمام الحسين عليه السلام مصباح هدى وسفينة نجاة
آية الله العظمى السيد محمد تقي المدرسي