اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
إن كنت محزوناً فما لك ترقد هلاّ بكيت لمن بكاه محمدُ
ولقد بكته في السماء ملائك زهر كرام راكعون وسجدُ
والشمس والقمر المنير كلاهما حول النجوم تباكيا والفرقدُ
عن ميثم التمار عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال في حقِّ ولده الإمام الحسين عليه السلام:(يبكي عليه كل شيء حتى الوحوش في الفلوات، والحيتان في البحار، والطير في جو السماء، وتبكي عليه الشمس والقمر والنجوم والسماء والأرض، ومؤمنو الإنس والجنّ، وجميع ملائكة السماوات، ورضوان ومالك وحملة العرش، وتمطر السماء دماً ورماداً)(1).
لو تأمّلنا هذه الفقرات العلوية في وصف جملة من المفردات الوجودية لانتهينا إلى أن الوجود بأسره يبكي لفاجعة الإمام الحسين عليه السلام, فالإمام علي عليه السلام أجمل قوله بكلمة:(يبكي عليه كل شيء), ثمّ فصّل لنا في ذلك فانتخب الأشياء التي قد تنقدح في ذهن المُتلقي, حيث سوف تأتي الوجودات الأرضية البرية والبحرية وكذلك الوجودات السماوية المرئية الحيَّة وغير الحية, ثمّ تنقدح في الذهن الموجودات الغيبية, كالملائكة والجنّ, حتى يترقّى المتخيل المستشكل ضمناً فتنقدح في ذهنة الوجودات العلوية كحملة العرش.
وهنا يختصر أمير المؤمنين علي عليه السلام الطريق أمام السائل فيُوقفه على عينات مهمة منتخبة من مجموع العوالم المادية والمجردة, فيبدأ بالأكثر بُعداً واحتمالاً وهي الوحوش الكاسرة, ولعل السرّ في ذلك هو أن كاسرية ووحشية هذه الحيوانات تُشكّل حجر الزاوية في انحطاطها وبعدها عن الحياة المدنية, وكأنها تطلب من ينقذها من هذه الطبيعة المؤلمة.
إنّ اختصار الوجود الممكن بهذه العينات يهدف إلى عظمة العبء الإلهي الذي حمله الإمام الحسين عليه السلام وحجم المسؤولية الكُبرى التي تكفّل بها, حيث كانت الخلائق ترزح تحت ظالمية الإنسان وطغيانه الذي تمثل آنذاك بأبشع شرذمة وهي بنو أُمية الذي علا طغيانهم وطفح تجاوزهم للحدود في عهد الدعي يزيد بن معاوية.
فالإنسان الذي اختاره الله تعالى من دون سائر خلقه ليكون له خليفة في الأرض:{وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأَرْضِ خَلِيفَةً ...}(2), بل خليفة لله في عالم الإمكان:{إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ... }(3), فكان الإنسان محلّ عناية واهتمام الجميع, ولكن الإنسان كما أنه خُلق في أحسن تقويم:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ}(4), فإنه تسفّل إلى أسفل السافلين:{ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ}(5), فصار الخلق بين الخوف من تولي الطغاة وأسفل السافلين أُمور الخلق, وبين الرجاء في تولي الإنسان الكامل الذي ما غادر أحسنيته, وهكذا تطلّعت الخلائق للمنقذ لها من براثن السفلية أو الأسفلية, فمروا بمحطات كثيرة بين الرفعة بكمالات الكامل وبين الضعة بتسفلات السافل, ولما آل الأمر إلى أسفل الخلق طُراً, أعني: بني أُمية, ثمّ بلغ الأمر ذروة بني أُمية في التسفّل, أعني: يزيد البغي, انقبضت النفوس وبلغت النفوس الحناجر, فانغمست العيون في ظلام دامس, وما عاد يُرجى شيءٌ في القريب العاجل.
كان الأمر أعظم من كلّ التوقعات, وأعمق من كلّ التصورات, فما عاد يكفي أن تخرج ها هنا ثورة وها هناك انتفاضة, كان الأمر يحتاج إلى فتح مُبين, إلى فتح يقلع الشجرة الخبيثة والملعونة في القرآن من جذورها, فكان بعد انحباس ورهبة صوت الحسين.
جاء أبو عبد الله عليه السلام {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}(6), فضجّت الوحوش في الأرض والملائكة في السماء لفرجها القريب ونصرها الكبير, فكان لها ذلك ولكن بعد حين, كان لها ذلك ولكن بدم الحسين.
فلما رأت الخلائق تكسّر الأصفاد بدم الحسين بكته جميعاً, وصارت تئنّ لعظيم ما افتدى به أبو عبد الله عليه السلام الدين القويم وثمن إرجاع الإنسان إلى Sأَحْسَنِ تَقْوِيمٍR, فكان هو الذِبح لذلك: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}(7).
وهكذا طالعت الخلائق مُنقذها وهو مُضرَّج بدمه, يرسم لها الفتح المبين بدمه وعطشه وقتل
فلذات كبده, بحرق خيامه وسبي نسائه, فتصدّعت النفوس وبكت العيون وكادت السماوات أن تنطبق على الأرض, ذلك هو معنى قوله عليه السلام:(يبكي عليه كل شيء).
وحيث أن دمه لم يجف, وعطشه لم يُروَ, وحرق خيامه لم يُخمد, وسبي نسائه لم تُمحَ صوره, فإن البكاء عليه أبد, والحزن عليه سرمد, والصوت المدوي في كل ذرّات الوجود سيبقى:(يا لثارات الحسين), فتقبّل يا ابن الساقي سُقيانا بدمعٍ, وعزاءنا بحشرجة, وانتماءنا إليك بمشي نتلو في كل خطوة منه ملحمتك الإلهية وصوتك الملكوتي الأبدي بوجه الظالمين السافلين الأسفلين:(والله لا أُعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقرّ إقرار العبيد)(8), هكذا نحن, وهكذا نبكيك.
تبكيك عيني لا لأجل مثوبة لكنما عيني لأجلك باكية
تبتل منكم كربلا بدم ولا تبتل مني بالدموع الجارية
.........................
المصادر
[1] ـ الأمالي للشيخ الصدوق: ص 189 ح 1 .
[2] ـ البقرة:30.
[3] ـ الأحزاب: 72 .
[4] ـ التين : 4 .
[5] ـ التين : 5 .
[6] ـ المائدة : 16.
[7] ـ الصافات : 107.
[8] ـ من كلمات الإمام الحسين عليه السلام في يوم كربلاء.
الشيخ طلال الحسن