لاحظوا قول أبي ذر رحمه الله : بينما أنا ذات يوم من الأيام بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، إذ قام وركع وسجد شكراً لله تعالى، ثم قال...الخ.
فعندما نقرأ عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم علينا أن نتوقف عند كل كلمة وحركة وسكنة، ونتأمل فيها.. فالشخص الذي ينزه الله تعالى نفسه لأنه أسرى به فيقول:سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ. ( سورة الإسراء: 1 ) صاحب مقام رفيع لايمكن معرفته إلا مجملاً، كما أجمل الله عنه القول بقوله: فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى( سورة النجم: 10 ) فمثل هذا الشخص لايصح أن ينظر الى قوله وعمله كغيره ، فإن الحركة والسكنة منه لها حساب .
يقول أبو ذر كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم جالساً مع أصحابه وفيهم أبو ذر ، فوقف في مجلسه فجأة ، ثم ركع ، ثم سجد !
والقيام والركوع والسجود أعلى أوضاع العبادة لله تعالى، ثم قال: يا جندب من أراد أن ينظر إلى آدم في علمه ، وإلى نوح في فهمه، وإلى إبراهيم في خلته، وإلى موسى في مناجاته وإلى عيسى في سياحته ، وإلى أيوب في صبره وبلائه ، فلينظر إلى هذا الرجل المقبل .
من أراد أن ينظر الى آدم.. في عطر وجوده الذي هو العلم.
والى نوح.. في عطر وجوده الذي هو الفهم ، والى بقية هؤلاء الأنبياء العظام عليهم السلام في أعلى صفاتهم ، فلينظر الى رجل سوف يأتي !
وهذا أيضاً من الإعجاز النبوي، فالله هو الذي أخبر النبي صلى الله عليه وآله وسلم بهذه الصفات أخبره بأن صاحبها آت في الطريق ، وأمره بأن يخبر المسلمين بمقامه العظيم قبل أن يأتي، ليستشرفوه وينتظروه، ويفكروا في أنفسهم من ترى سيكون هذا الشخص الرباني الذي يمدحه الله ورسوله بهذا المديح؟!
والذي يحير العقل أكثر أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم مضافاً الى تلك الصفات الفريدة، التي وصف علياً عليه السلام بها، قال عنه أيضاً: (الذي هو كالشمس والقمر الساري، والكوكب الدري) ! ونحن نعرف أن منظومات الكون ثلاثة أنواع لاأكثر: شموس مضيئة بنفسها، وأقمار منيرة بغيرها، ونجوم . وقد وصف النبي علياً بها ثلاثتها !
وهذا الكلام ليس كلاماً صادراً من عارف أوفيلسوف أو فلكي حتى نحمله على عالمه، ولا المتكلم به موسى وعيسى صلى الله عليه وآله وسلم ، بل هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وعقل الكل، ونقطة الوصل بين الرب وجميع المربوبين، فهو صلى الله عليه وآله وسلم يقول لنا إن أردتم أن تنظروا الى شخص يحمل علم آدم وفهم نوح وخلة ابراهيم ومناجاة موسى وسياحة عيسى وصبر أيوب عليه السلام .. فانظروا الى علي بن أبي طالب! ويقول: إن علياً فوق ذلك شمس مضيئة، وقمر منير، ونجم يتلألأ !
ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم : أشجع الناس قلباً ، وأسخى الناس كفاً ، فعلى مبغضه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين.
وكلمة (أشجع الناس) أعم الألفاظ في الدلالة على التفضيل ، فلايستثنى من جميع الناس إلا من أخبرنا الله تعالى بأنه سيد الخلق وخاتم النبيين !
أو ليس هذا الكلام البليغ من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دليلاً على أن ما قيل وكتب ، وما سيقال ويكتب عن علي عليه السلام ليس إلا بمقدار جناح بعوضة أمام ذروة ربانية شامخة ؟!
بلى ، إنه كلام فوق شرح الشراح ، وتفسير المفسرين ، وقول القائلين !
روى أحمد بن حنبل في فضائل الصحابة:2/662، عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: (خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد ، قبل أن يخلق الله تعالى آدم بأربعة عشرة ألف عام، فلم يزل في شئ واحد ، يسبح الله ذلك النور ويقدسه ، فلما خلق الله تعالى آدم أسكن ذلك النور في صلبه ، الى أن افترقنا في صلب عبد المطلب، فجزء في صلب عبدالله، وجزء في صلب أبي طالب) !
هذه رواية إمام الحنابلة لهذه المنقبة ! والأربعة عشر ألف سنة في الحديث ليست من سنيِّنا التي تبدأ بمحرم وتنتهي بذي الحجة ، بل هي سنين ربانية يومها أكبر مما نفكر ! فتأملوا بدقة في هذا الكلام النبوي ، والمقام العجيب لسيدالأنبياء وسيد الأوصياءصلوات الله عليهما،ومسار نورهما في الوجود! وقد روى هذه المنقبة من العامة ابن المغازلي في مناقبه وغيره .
أما مصادرنا فقد روتها بألسنة مختلفة ، ولعل اختلاف عدد السنين فيها تعبير عن مراحل وجود ذلك النور قبل أن يحل في صلب آدم عليه السلام .
ففي علل الشرائع:1/134، عن أبي ذر رحمه الله قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول:خلقت أنا وعلي بن أبي طالب من نور واحد، نسبح الله يمنة العرش قبل أن يخلق آدم بألفي عام ، فلما أن خلق الله آدم جعل ذلك النور في صلبه ، ولقد سكن الجنة ونحن في صلبه ، ولقد همَّ بالخطيئة ونحن في صلبه ، ولقد ركب نوح في السفينة ونحن في صلبه ، ولقد قذف إبراهيم في النار ونحن في صلبه، فلم يزل ينقلنا الله عز وجل من أصلاب طاهرة إلى أرحام طاهرة ، حتى انتهى بنا إلى عبد المطلب فقسمنا بنصفين ، فجعلني في صلب عبد الله وجعل علياً في صلب أبي طالب ، وجعل فيَّ النبوة والبركة ، وجعل في علي الفصاحة والفروسية ، وشق لنا اسمين من أسمائه ، فذو العرش محمود وأنا محمد ، والله الأعلى وهذا علي ).
لاحظوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم لعمر: أَوَمَا علمت؟! فهو استفهام يحمل معنى بليغاً . إن رواية أحمد بن حنبل المتقدمة عن نور النبي ونور علي، وجواب النبي عليهما السلام على سؤال عمر في هذه الرواية ، يقولان للبشر إفهموا قوله تعالى عنهما: وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ. ( سورة آل عمران: 61 ) ، فأنا وعلي وجودٌ واحد ، بِدأ واحدٌ، وختمٌ واحدٌ ، وانقسامه بعد عبد المطلب كان لسر عظيم ، ليعود ويتحد من بعدي وبعد علي وفاطمة في الحسن والحسين والأئمة المعصومين عليهم السلام !
وهذا معنى قوله صلى الله عليه وآله وسلم : علي شمس وقمر وكوكب .
أما الكوكب فلأن في علي صبر أيوب ، وأيوب كوكب .
وأما القمر ، فلأن فيه شبه موسى وعيسى وابراهيم ، ولهم رتبه القمر.
لكن علياً مع ذلك شمسٌ أيضاً ، لأنه مني وأنا هو ، ففي علي خصائص هذه الثلاثة ، الشمس والقمر والكوكب الدري !
هذا المظلوم الذي لم تعرف الدنيا مظلوماً مثله.. هل يصح أن يجعل طرفاً يقارن به شخصٌ تنازع أبوته أربعة رجال، ولم يعرف هل أبوه منهم أو من غيرهم؟! وهل يصح أن يجلس مثله تحت منبر شخص يقول: كل الناس أفقه مني حتى ربات الحجال؟!
وهل رأيتم مظلوماً أعظم ظلامة من علي عليه السلام الذي تسلم من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أمانته وابنته الصديقة الطاهرة، ثم سلمها اليه جنازة تجرعت مرارات الظلم والإضطهاد حتى ذاب جسدها وصارت كالخيال، وصلى على جنازتها الطاهرة ودفنها نصف الليل، ولم يحضر جنازتها إلا بضعة نفر ، ثم قال:
الآن انهدَّ ركناي !!
إن مسؤولية كل واحد منكم أن يعمل بكل ما يستيطع، بقلمه وبيانه، لكشف هذه الظلامة الكبرى ، ورفع غيومها عن وجه شمس العالم.
والسلام عليه يوم ولد ويوم استشهد ويوم يبعث حياً
كتاب الحق المبين في معرفة المعصومين "ع" للكوراني