اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
الحمد لله رب العالمين، غافر الذنب، وقابل التوبة عن عباده المذنبين، إذ من رحمة الله سبحانه من العباد، أن فتح لهم باباً سمَّاه التوبة، وأمرهم بدخوله، فقال: {توبوا إلى الله توبة نصوحاً عسى ربكم أن يكفّر عنكم سيئاتكم}.
والتوبة بحدِّ ذاتها من المعطيات الربَّانية، والهبات الإلهية التي تفضّل الله بها على العباد.. ولولاها لا ينجُو أحد من بني آدم من عذاب أبدي، فما من واحد من البشر إلا وقد ارتكب ذنوباً، بإيعاز من نفسه الأمَّارة بالسوء، وهو يأمل من الله الرحمن الرحيم جلَّ وعلا، أن يتجاوز عنه ويغفر له ما قد سلف، ويزيده من فضله. وهل باستطاعتنا تصوّثر أن أحداً ينجو من العذاب المهين بعمله؟!. فلا بد لنا، للنجاة، من رحمة الله التي تظهر بعض تجلياتها، في فتح باب التوبة أمام العباد.
وكما أنَّ المرء، بطبعه، يتجنَّب الأمراض التي تؤذي الجسد وقد تهلكه، وتجعله يموت ويخسر الدنيا، كذلك كل عاقل يتجنب أمراض نفسه، من الذنوب والآثام، التي لا تجعل له نصيباً في الآخرة وتتركه من الخاسرين، حيث لا شيؤ يُجْبر أو يُعوَّض.
فالذنوب المقيمة، والتوبة المؤجّلة، تجعل الإنسان يأنس بالشهوات ويفتش عن المنكرات، فتتوالى عليه الكربات، ويبعد عن لقاء الله عزَّ وجلَّ، ويُجازى بالاحتجاب عنه سبحانه، وهو يعلم: أن لا مفرَّ ولا مهرب من لقائه سبحانه وتعالى على كل حال.
فلماذا يا ترى، يتطوَّع هذا الإنسان الجاهل ليكون عدواً لله؟
ولماذا لا يسرع إلى التوبة التي دعاه إليها، قبل فوات الأوان، فيكون من المفلحين الرابحين الفائزين في رُوْح وريحان، وجنَّة ونعيم؟! {وتوبوا إلى الله جميعاً أيها المؤمنون لعلَّكم تفلحون}.
وكيف بك وأنت تسعى جاهداً عند ملك من ملوك الدنيا ليصطفيك من بني قومك ويجعلك عنده حبيباً وقريباً؟
وكيف إذا نلت هذا المقام، عند من هو أعظم من الملك؟! بل كيف إذا دعاك هو لذلك؟!
وكيف بك وأنت تنصت لملك الملوك في قوله: {إنَّ الله يحبّ التوَّابين ويحب المتطهرين}.
يقول رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "التائب حبيب الله، والتائب من الذنب كمن لا ذنب له"، و"ليس شيء أحب إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة". أفلا تسكن نفسك، ويهدأ روعك، وتطمئن جوارحك لتوبة صادقة، وأنت تعلم أن مَنْ أحبَّه الله لا يعذبه. بل يشير إلى جوارحه وملائكته كي تستر عليه ولا تفضحه؟! وقد جاء عن الصادق عليه السلام قوله: "إذا تاب العبد توبة نصوحاً، أحبَّه الله فستر عليه"، قيل: " وكيف يستر عليه"؟ قال عليه السلام: "يُنسي ملكيه ما كانا يكتبان عليه ويوحي الله إلى جوارحه، وإلى بقاع الأرض أن اكتمي عليه ذنوبه، فيلقى الله تعالى، حين يلقاه، وليس شيء يشهد عليه بشيء من الذنوب".
وفي هذا المعنى أيضاً رواية عن أمير المؤمنين عليه السلام: والعجب من المسوِّف الذي يؤخّر التوبة، وهو لا يعلم متى ينزل به الموت، ويأخذه على حين غرَّة وغفلة من أمره، فيندم متأخراً حين لا ينفعه الندم. فمن تناول الطعام السام شُبهةً، فإنه يسارع إلى التخلص منه، أو تناول المضادات الحيوية له وبسرعة، لأن الوقت في مثل هذه الأمور هو الأثمن والأخطر.. ولا يُعوَّض.
فالتوبة هنا يجب أن تكون فورية، للتخلص من الذنوب والتبعات وما دام هناك مهلة من العمر، فلا بد من المسارعة فيها، إلى توبة نصوح صادقة حقيقية، نتندم فيها نحزن على ما فات من العمر. عازمين على عدم العودة أبداً. لأن ملك الموت، إذا ظهر للعبد، أعلمه أنه قد بقي من عمرك ساعة وأنك لا تستأخر عنها طرفة عين.. ومهما فعل العبد ليضيف ولو ساعة واحدة لتدارك تفريطه فإنَّ ذلك لا ينفع أبداً:
{وحيل بينهم وبين ما يشتهون}.
وعندها يعظم التحسر والألم والحزن، على كل وقت ذهب هدراً في هذه الحياة الزائلة، ولم يتزوّد فيه بالصلاح، أو بالموعظة أو الصدقة أو العمل الصالح، ويرى، من كدس أمواله ولم يجعلها في خط الآخرة أنها صارت وبالاً عليه: تُصادر كلها منه، ويحاسب عليها كلها: {وأنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي أحدكم الموت فيقول رب لولا أخّرتني إلى أجل قريب فأصّدق وأكن من الصالحين* ولن يؤخر الله نفساً إذا جاء أجلها والله خبير بما تعملون}.
آهٍ منك أيها الإنسان المغتر بنفسه، المؤخّر لتوبته، المسوِّف لإنابته، المؤجل لاستغفاره وتندّمه... وأنت ترى أن الأيام تمرّ والساعات، من دون استئذان منك... وما هو إلا وقت قصير ومكتوب، حتى تتقطع أنفاسك، وتغرغر بروحك... أفلا تسارع إلى التوبة وقد روي في جملة روايات مباركة أن التوبة تقبل من العبد قبل أن يغرغر، أي قبل أن تتردد روحه عند حلقومه؟ وأنَّ التوبة تقبل منه قبل أن يعاين أمر الآخرة ، وكل هذا نراه في قوله تعالى: {إنَّما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة ثم يتوبون من قريب فأولئك يتوب الله عليهم وكان الله عليماً حكيماً* وليست التوبة للذين يعملون السيّئات حتى إذا حضر أحدهم الوت قال إني تبت الآن ولا الذين يموتون وهم كفَّار أولئك أعددنا لهم عذاباً أليماً}.
أيها القارىء العزيز، فلنحسم أمرنا، ولنغلب شهوتنا، ولنعجِّل في توبتنا، فلا تعلم نفسٌ بأي أرض تموت، أو متى تموت، ولا تعلم نفس ماذا تكسب غداً، وماذا يخبىء لها الأجل المستور. فإنَّ الله سبحانه {غافر الذنب وقابل التوب}.
وبما أنه سبحانه أعطانا التوبة، فلن يحرمنا من القبول، لأن وعده الحق، وكلامه الصدق.
فيا أخي المؤمن: إنك لو ارتكبت ذنباً، فإن الله يؤجله سبع ساعات، فاتحاً أمامك المجال للاستغفار، فإن فعلت فلا يُكتب عليك شيء، وإن لم تستغفر كتب عليك سيّئة..
أفلا تستغفر ربّك لذنبك، ولو بعد عشرين سنة، فيغفر لك؟!
يقول الإمام الباقر عليه السلام: "واعلم يا أخي، أنَّ من هَمَّ بسيّئة لم تكتب عليه، فإن عملها كتبت عليه سيّئة واحدة فحسب، ومن هَمَّ بحسنة كتبت له حسنة، وإن لم يعملها، فإن عملها كتبت له عشراً".
ويقول الإمام الصادق عليه السلام: "وإيَّاك أن تقنِّط المؤمنين من رحمة الله".
بعد كل هذه الألطاف الإلهية ما لك تتقاعس ولا تحزم أمرك، وأنت تسير نحو أجلك الموعود. وأجلك يسير نحوك، كما يقول أمير المؤمنين عليه السلام في نهجه: "... فاتقى عبدٌ ربَّه، وقدَّم توبته، وغلب شهوته فإن أجله مستور عنه، وأمله خادع له، والشيطان موكل به، يزين له المعصية ليركبها، ويمنّيه التوبة ليسوّفها، إذا هجمت منيته عليه أغفل ما يكون عنها، فيا لها حسرة على كل ذي غفلة أن يكون عُمره عليه حجَّة، وأن تؤديه أيَّامه إلى الشقوة".
لماذا نؤخّر التوبة ونسوقها، وقد كان من هو أفضل منَّا يسارع إليها؟ فهؤلاء هم الأنبياء يتوبون من غير ذنب اقترفوه، ولكن تعبداً وتقرباً وتطهيراً لنفوسهم. وكان السلف الصالح من عباد الله يستغفرون في ليلهم ونهارهم، وسرّهم وعلانيتهم، حتى أصبح ذلك عادة لهم لا تفارقهم.
فكيف بي وبك، نحن الذين غرقنا بذنوبنا، وأحاطت بنا تبعاتها، ولم يزل أمامنا فرصة كي نلتحق بالمتقين في الدنيا، لعلَّ الله سبحانه يجعلنا منهم في الآخرة: "وسيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنَّة زمراً، وقد أُمِنَ العذاب، وانقطع العتاب، وزحزحوا عن النار، واطمأنت بهم الدار، ورضوا المثوى والقرار، الذين كانت أعمالهم في الدنيا زاكية، وأعينهم باكية، وكان ليلهم في دنياهم نهاراً، تخشّعاً واستغفاراً، وكان نهارهم ليلاً، توحّشاً وانقطاعاً، فجعل الله لهم الجنَّة مآباً، والجزاء ثواباً، وكانوا أحقَّ بها وأهلها، في ملك دائم ونعيم قائم".
إنَّ التوبة والاستغفار من نعم الله سبحانه التي ينبغي أن نشكره عليها، وأن نسأله إيَّاها، لو لم تكن موجودة، فإنَّ الله سبحانه قد جعل في الأرض أمانين من عذابه، رُفِع الأول وبقي الثاني: فالأمان الأول الذي رُفع هو رسول الله صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أما الأمان الثاني الباقي، فهو الاستغفار، فلنتمسك بهذا الأمان. لقد قال الله تعالى مخاطباً نبيّه: {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذّبهم وهم يستغفرون}.
وهذا الرابط بين الرسول والاستغفار يظهر جلياً فيما لو تشرّفت بزيارة المدينة المنوَّرة قطع الله أيدي المتسلّطين عليها ـ لخاطبت النبي صلَّى الله عليه وآله وسلَّم قائلاً: "اللهم إنَّك قلت: {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جاؤوك فاستغفروا الله واستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توَّاباً رحيماً} ، وإني أتيتك مستغفراً تائباً من ذنوبي، وإني أتوجّه بك إلى الله ربِّي وربّك ليغفر لي ذنوبي.
أخي القارىء: كفى بنا موعظة أنْ نرى الله سبحانه وهو مطَّلع على كل عمل نقوم به، فهو الرقيب وهو الحسيب، فنخجل ونستحي...
فقد ذكر أنَّ حبشياً سأل رسول الله توبة على فواحش ارتكبها، فبشَّره بالإيجاب، فتاب الحبشي ثم مضى، وبعد قليل رجع، فقال: يا رسول الله، الله سبحانه يراني وأنا أعمل تلك الفواحش؟ فقال صلَّى الله عليه وآله وسلَّم: "نعم". فصاح الحبشي صيحة خرجت فيها نفسه. فليكن هذا الحبشي مذكِّراً لنا وواعظاً.
نسأل الله سبحانه أن يجعلنا وإيَّاكم ممَّن لا تبطره نعمة، ولا تقصِّر به عن طاعة ربّه غاية، ولا تحلُّ به بعد الموت ندامة ولا كآبة.
للسيد سامي خضرا