اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
لما رأى رسول الله (ص) ما يصيب أصحابه من البلاء والشدّة، وانه لا يقدر على أن يمنعهم من قومهم وأنه ليس في قومهم من يمنعهم كما منعه عمه أبو طالب (رض) أمرهم بالهجرة إلى ارض الحبشة وقال لهم : أن بها ملكاً لا يظلم الناس ببلاده في ارض صدق، فتحرزوا عنده حتى يأتيكم الله عزوجل بفرج منه ويجعل لي ولكم مخرجاً فخرج عند ذلك المسلمون من أصحاب رسول الله (ص) إلى أرض الحبشة مخافة الفتنة وفراراً إلى الله تعالى يدينهم.
وكان عددهم خمسة عشر إنساناً أو يزيدون قليلاً وكان ذلك في رجب من السنة الخامسة للمبعث، زاحفين من مكة إلى جدة ليلاً، حتى صادفت أن بعض السفن التي كانت في طريقها إلى الحبشة قد رست في ميناه جدة فركبوا بها بأجر لا يزيد على نصف دينار لكل راكب، واستيقظت قريش على أنباء تلك الهجرة، وقدرت ان هؤلاء سيكونون دعاة للإسلام في بد مؤمن بالنصرانية وقد ترامى إلى اسماع قريش ان بعض آثارها تبشر بظهور بني عربي، فخرجت لترد القافلة إلى مكة ولكن المسلمين كانوا قد أنطلقوا آمنين من شواطئ جدة قبل وصول قريش اليهم.
قالت أم سلمة :
لم نزلنا أرض الحبشة، جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنا على ديننا وعبدنا الله تعالى، لا نؤذى ولا نسمع شيئاً نكرهه.
فأقاموا مدة ثلاثة أشهر أو أكثر في أمن وأمان يمارسون فيها أمور دينهم ويعبدون ربهم بجرية لا يخشون أحداً ولا يسمعون ما يكرهون في ظل ملك عادل يتوجه برعيته حيث يوجهه رشده وأنصافه.
وجاءت المهاجرون الأخبار بزوال عهداً المحنة ومهاونة قريش للمسلمين، فاختاروا الرجوع والعيش في بلدهم مع الرسول (ص) فتركوا بلاد الحبشة وهم يحملون لأهلها أطيب الذكر والشكر.
(الهجرة الثانية إلى الحبشة)
بعد ان رجع الوفد الأول من الحبشة فوجدوا أن ما بلغهم من مهادنة قريش للنبي (ص) وأصحابه بعيداً عن الواقع وان قريشاً لا تزال على موقفها العدائي بل أشد من موقفها الأول عندها نصحهم الرسول (ص) بالرجوع إلى الحبشة وذلك لأسباب منها أن قريشاً أبت إلا أن تنكل بالقادمين وان تغوي القبائل الأخرى بمضاعفة الأذى للمسلمين.
وكانت الهجرة الثانية أوسع من سابقتها فقد سافر منهم ثلاثة وثمانون رجلاً وتسع عشر امرأة ويسر الله لم أسباب الهجرة بواسطة السفن التي كانت في طريقها من شواطئ جدة إلى الحبشة وكان من بينهم جعفر الطيار (رض) ومعه زوجته أسماء بنت عميس، وغيره من وجوه المسلمين الذين ينتمون إلى قريش وغيرها، فوجدوا عند النجاشي ما يبغون من أمان وطيب جوار وكرم وفادة وعز على قريش أن تجد المهاجرين الفارين بدينهم في أمان وطيب أقامة فأغرتهم كراهيتهم للإسلام ان يبعثوا وفداً مزوداً بالهدايا والتحف للنجاشي وحاشيته وكان الوفد مؤلفاً من عمرو بن العاص أحد الدهاة المعروفين في مكة وعبد الله بن ابي ربيعة أجمل فتى في قريش وعمارة بن الوليد بن المغيرة وغيرهم وقد حدث المؤلفون في السيرة عن أم سلمة زوجة النبي (ص) وكانت أحدى المهاجرات يوم ذاك مع زوجها ـ ابو سلمة بن عبد الأسد.
فوزع الوفد الهدايا التي معه على البطارقة وحاشية الملك وقالوا لكل من أهدوا إليه شيئاً، أنه قد لجأ إلى بلد الملك منا غلمان سفهاء فارقوا دين آبائهم وقومهم ولم يدخلوا في دينكم وجاءوا بدين مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنتم، وقد بعثنا إلى الملك فيهم إشراف قومهم ليردوهم إليهم فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا فان قومهم أعنى بهم عيناً وأعلم بما عبوا عليهم فوعدهم البطارقة خيراً، ثم أنهم قدموا إلى الملك هدية فقبلها منهم ثم تحدثوا معه بالمهمة التي جاءوا من أجلها بما تحدثوا به مع بطارقته وحواشيه، ورجح له البطارقة أن يسلمهم اللاجئين ويردهم إلى قومهم وبلادهم، فلم يستجب لهم وقال والله لا اصنع شيئاً حتى أدعوهم وأنظر في أمرهم فإن كانوا كما يقولون سلمتهم لهم، وإن كانوا على غير ذلك أحسنت جوارهم ما داموا في جواري.
ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله (ص) فدعاهم، فلما جاءهم رسوله اجتمعوا ثم قال: بعضهم لبعض ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا : نقول والله ما علمنا وما أمرنا به نبينا (ص) كائناً في ذلك ما هو كائن.
فلما جاءوا وقد دعا النجاشي أساقفته، فنشروا مصاحفهم حوله، سألم فقال لهم ما هذا الدين الذي قد فارقتم فيه قومكم، ولم تدخلوا في ديني، ولا في دين أحد من هذه الملل؟ فكان الذي كلمه جعفر بن ابي طالب (رض) فقال له : أيها الملك، كنا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام ونأكل الميتة ونأتي الفواحش ونقطع الأرحا ونسيء الجوار ويأكل القوي منا الضعيف وكنا على ذلك حتى بعث الله الينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه فدعانا إلى الله لنوحده ولنعبده ونخلع ما كنا بغير نحن وأياقفا من دونه من الحجارة والأوثان وأمرنا يصدق الحديث وأداء الأمانة وصلة الرحم وحسن الجوار والكف عن المحارم والدماء ومنها ناعم الفواحش وقول الزور وقول الزور وأكل مال اليتيم وقذف المحصنات وأمرنا ان نعبد الله وحده ولا نشرك به شيئاً وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام (فعدد عليه أمور الإسلام) فصدقناه وآمنا به واتبعناه على ما جاء به من الله، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً وحرمنا ما حرّم الله علينا وأحللنا ما أحل الله لنا، فعدوا علينا قومناً، فعذبونا وأفتتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله تعالى وإن نستحل ما كنا نستحل من الجنائث فلما مهرونا وظلمونا وضيقوا علينا وحانوا بيننا وبين دينا، خرجنا إلى بلادك واخترناك على من سواك ورغبنا في جوارك ورجونا أن ألاّ نظلم عندك أيها الملك.
فقال له النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟ فقال له جعفر (رض) نعم، فقال له النجاشي، فأقرأه علي ، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، فبكى النجاشي حتى إخضلت لحيته وبكت أساقفته حتى اخضلوا[1] مصاحفهم، حين سمعوا ما تلا عليهم، ثم قال لهم النجاشي:
ان هذا والذي جاء به عيسى ليخرج من مشكاة واحدة، إنطلقا، فلا والله لا أسلمهم إليكم. فخرج وفد قريش من عند النجاشي مقبوحين مردوداً عليهم ما جاءوا به وأقام المسلمون عند النجاشي بخير دار من خير جار[2].
فأقام المسلمون بأرض الحبشة حتى ولد لهم الأولاد وجميع أولاد جعفر ولدوا بأرض الحبشة، ولم يزالوا بها في أمن وسلامة ورجع جعفر ومن دونه إلى المدينة بعد أن هاجر النبي (ص) إليها وكان ذلك في يوم فتح خيبر[3] .
أول وفد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله)
في غمرة ما كان يلاقيه النبي (ص) وأصحابه من العذاب والإيذاء وفد إلى رسول الله (ص) أول وفد من خارج مكة لفهم شيء عن الإسلام وكانوا بضعة وثلاثون رجلاً من نصارى الحبشة جاءوا مع جعفر بن أبي طالب (ع) لدى عودته إلى مكة، فلما جلسوا إلى رسول الله (ص) وأطلعوا على صفاته وأحواله.
وسمعوا مما تلي عليهم من القرآن آمنوا كلهم، فلما علم بذلك ابو جهل أقبل إليهم قائلاً: ما رأينا ركباً أحمق منكم !... أرسلكم قومكم تعلمون خبر هذا الرجل، فلم تطمئن مجالسكم عنده حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال، فقالوا : سلام عليك لا نجاهلكم، لنا ما نحن عليه ولكم ما أنتم عليه.
فنزل في حقهم قوله تعالى : (الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون)[4].
(قريش تقاطع بني هاشم).
لما رأت قريش أن أمر النبي (ص) ينتشر في القبائل وان المستضعفين قد آمنوا واستقروا في الحبشة، ازدادوا غيظاً على المسلمين فأجمعوا على أن لا يبايعوهم ولا يدخلوا إليهم شيئاً من الرفق[5] وقطعوا عنهم الأسواق ولم يتركوا طعاماً ولا أداماً إلا بادروا إليه واشتروه ولا يناكحوهم ولا يقبلوا منهم صلحاً أبداً ولا تأخذهم بهم رأفة حتى يسلموا رسول الله (ص) للقتل وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في الكعبة وترووا العمل بها وتم تنفيذها من قريش.
فكان بنو هاشم لا يخرجون من الشعب (شعب أبي طالب) إلا من موسم إلى موسم حتى بلغهم الجهد وتماثل صبيانهم للهلاك بعد ما أصابهم من الجوع، واستمر هنا الحال ما يقارب ثلاث سنين.
ثم ان الله تبارك وتعالى سلط على صحيفتهم التي كتبوها الأرضة فلم تدع منها الاّ (بسمك اللهم) فأخبر الله تعالى بذلك رسوله (ص) فأخبروا الرسول (ص) أبا طالب، فقال أبو طالب : والله ما يدخل علينا أحد، فمن أخبرك بهذا؟ قال : ربي، وهو الصادق يا عم، قال : أشهد انك لا تقول إلاّ حقاً، فخرج أبو طالب في جماعة من رهطه، حتى وقف على قريش، فقال ادعوا بصحيفتكم التي كتبتموها علينا، فخرجوا سراعاً ليأتوا بها، وهم يظنون أن ذلك لأمر يوافقهم، فوجدوها كما قال رسول الله (ص) فنكسوا رؤوسهم فقويت نفس أبي طالب واشتد صوته وقال المشركون: إنما تأتوننا بالسحر والبهتان، فقال أبو طالب: قد تبين لكم أنكم أولى بالظلم والقطيعة والإساءة، واسلم يومئذ خلق من الناس عظيم، وبهذا انتهت المقاطعة ونصر الله تعالى رسوله الكريم (ص) .
[1] ـ أي بللوا مصاحفهم بدموعهم.
[2] ـ سيرة ابن هشام ج2 ص 176 ـ 180.
[3] ـ المستدرك للحاكم ج2 ص624.
[4] ـ سورة القصص/ الآية 53، رواه إسحاق ومقاتل والطبراني عن سعيد بن جبير وذكر ذلك ابن كثير والقرطبي والنيسابوري عند تفسير هذه الآية وما بعدها.
[5] الرفق بالكسر : ما يستعان به.