السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الصديقة الزهراء تحارب الإنحراف المقنّع حسب رؤية الفقيه الشيرازي (قدس سره)
من أخطر ما يواجه الأمة الاسلامية في عقيدتها، هو الانحراف عن الطريق الذي رسمه لنا نبينا الأكرم (صلى الله عليه وآله)، وقبل رحيله عن دار الدنيا أعلن النبي الأكرم بصريح العبارة وبكلمات مدوية عبر التاريخ والأجيال بـ(أني تارك فيكم الثقلين؛ كتاب الله وعترتي أهل بيتي ، ما أن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا)، لكن الكنز الهائل والتركة الضخمة لم تكن لتغني نفوس شحّت على الحق ودرجت على الباطل، فقد شقّ على البعض الالتزام بالاخلاق منهجاً في الحياة، وبالتعاليم الدينية السمحاء طريقاً للسعادة في الدنيا والاخرة، فكان الانحراف من الساعات الأولى لرحيل رسول الله، وبما انهم كانوا بحاجة الى تغيير وتعديل في السنّة النبوية الشريفة بشكل غير محسوس، لجأوا الى التلبيس والتمويه وتزييف الحقائق، لذا كان الانحراف غير واضح المعالم وغير مكشوف لعامة الناس إلا من أتاه البصيرة وألقى السمع وهو شهيد.
يقول الفقيه المقدس آية الله السيد محمد رضا الشيرازي (اعلى الله درجاته): إن أخطر ما أُبتليت به الأمة الاسلامية بعد وفاة الرسول الأكرم هو الإنحراف المقنّع والمبطّن، لأن (لا تكتشفه إلا البصائر النافذة)، وإلا فان الانحراف المكشوف واضح للعيان، ويمكن لأي شخص اتخاذ الموقف السريع إزاءه، إلا ان الانحراف المقنع يجرف الغالبية من الناس الذين لا يسعهم التحقيق والتفحّص في الأمور، فهم عندما يؤيدون الانحراف المقنّع أو ربما يقرون بوجوده على أرض الواقع، إنما في قرارة أنفسهم يعدون أنفسهم قد أدوا ما عليهم من الواجب أزاء الدين والعقيدة، وهنا مكمن الخطر، ولكن شخصية واحدة قامت بدور عظيم وهو إماطة اللثام عن وجوه المؤامرة منذ الأيام الأولى لظهور هذا النوع من الانحراف، وهي ليست سوى الصديقة الطاهرة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها).
لكن كيف تمكنت الزهراء وبنجاح في أداء هذه المهمة الإلهية مع كونها إمرأة ؟!
المرحوم الفقيه الشيرازي ، سلط الضوء في إحدى أحاديثه على قضية الإنحراف المقنّع الذي ظهر بعد وفاة رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، مبيناً دور الصديقة الطاهرة في هذا المعترك، حيث يقول : (إن الصديقة فاطمة الزهراء (صلوات الله عليها) بطلة الحرب ضد الإنحراف المقنّع، كما كان سيد الشهداء الإمام الحسين (صلوات الله عليه) بطل الحرب ضد الإنحراف المكشوف)، وكان هذا الدور من الأهمية أن كان قناع الإنحراف في حينه من الدقّة بحيث ينطلي على أكبر عدد ممكن من المسلمين، (لذا نجد هذا الانحراف مستمراً منذ ألف وأربعمائة سنة ، وما يزال مستمرٌ ويسير خلفه الملايين من الناس هذا اليوم).
لنأتي على السؤال الذي قدمناه آنفاً؛ إن الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها) ضحت بنفسها وبجنينها من أجل فضح هذا الإنحراف عن خط رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فقد عزّ عليها أن ترى الإسلام الذي ضحى لرفعته وانتشاره في الآفاق، خيرة الأبطال والأفذاذ من أمثال جعفر بن أبي طالب والحمزة وآخرين، هذا الى جانب استبسال أمير المؤمنين وتفانيه، ثم ترى بأم عينيها أناس من الذي أنعم الله ورسوله عليهم بالإيمان بعد ذلّ العبودية، وهم يتطاولون على الله ورسوله وعلى الاسلام تحت غطاء الاسلام نفسه.
الصديقة الزهراء (صلوات الله عليها)، تخرج من بيتها وفيه أمير المؤمنين الملتزم الصمت بحكمة عليا، وتتجه الى مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وتخطب تلك الخطبة العصماء والتاريخية التي سُميت بـ(الخطبة الفدكية)، حيث ذكرت فيه حقها الذي اغتصبوه منها دون وجه حق، لكن الانحراف المقنّع كان ماثلاً أمامها عندما جاءها الجواب من ذلك الرجل : (والله ما خالفتُ رسول الله وما عدوتُ أمره وإني أُشهد الله وكفى به شهيداً)!
(إن ما يثير العجب هو حِلم الله سبحانه وتعالى، إذ يُستشهد به في الباطل ويحلَم، ثم يتابع ذلك الرجل قوله: (إني سمعتُ رسول الله يقول إنا معاشر الأنبياء لا نُوّرث ما تركناه من طعمة فهو لولي الأمر من بعدنا يتصرف فيه كيف يحب)، أي انه يحارب بضعة رسول الله بحديث من رسول الله (صلى الله عليه وآله)، وهو حديث كاذب، فهل نُصدق ذلك الرجل في هذه المقالة أم نصدق الله سبحانه وتعالى حيث يقول: (ورث سليمان داود)؟ كما قال الله سبحانه وتعالى في كتابه المجيد: (ورث سليمان داود)، ويقول في آية أخرى: (يرثني ويرث من آل يعقوب).
كما إن المطالبة بفدك التي بالحقيقة رمز للحق المضيّع وليس فيه أي بعد مادي لأهل البيت (صلوات الله عليهم)، كانت بحد ذاتها وسيلة لتكشف أكذوبة أخرى في مقولة عدم توريث الإنبياء، فاذا كان كما يقول أولئك المقنعون، فما بال عائشة وحفصة يبقيان في بيت رسول الله بعد وفاته؟ ألا يفترض ان يكون البيت لعامة المسلمين كما صدر الحكم الجائر بهذا الشكل بالنسبة لمزرعة (فدك) ؟ في تلك الفترة لم يكن ليتجرأ أحد على أن يصرّح بأن البيت الذي تسكن فيه عائشة – بنت أبي بكر- وحفصة – بنت عمر بن الخطاب- هو ملكهما الشخصي خوفاً من أن يفضحهما القرآن الكريم الذي صرّح عدة مرات بان الذي يسكنه رسول الله هو بيته وليس بيت شخص آخر، (يا أيها الذين آمنوا لاتدخلوا بيوت النبي حتى يؤذن لكم...).
لقد إفحم أمير المؤمنين وفاطمة في حوارهما مع الطامعين في السطلة و زينة الحياة الدنيا ، ولو ذلك لما وصل إلينا الاسلام بهذا الشكل المتكامل والحيّ، و(لكان الإسلام قد تحول الى ديانة مثل اليهودية والمسيحية، مقتصرة على الطقوس الفارغة غير المرتبطة بالحياة، والحقيقة تقال: إن فاطمة الزهراء لها حق الحياة على الإسلام ، ولها حق الحياة على التشيّع ، وعلينا جميعاً)، لذا نعرف إن الإنحراف المقنّع ذو الأربعة عشر قرناً ما يزال يواجه الفضيحة، ويبقى كذلك الى يوم القيامة، وذلك بفضل تضحيات الصديقة الطاهرة، فمن يذهب الى المدينة المنورة يجد أمامه القبة الخضراء لرسول الرحمة والانسانية وخاتم الأنبياء (صلى الله عليه وآله)، وهي شامخة عالية فوق التجديف والتزييف، كما بامكانه رؤية مراقد الأئمة المعصومين الأربعة في مقبرة البقيع رغم المظلومية التي تحيط بها، لكنه لا يجد أمامه قبراً للصديقة الزهراء ، ولا يجد قبراً للسقط (محسن) الذي سقط شهيداً خلف الباب بفعل الهجوم الغادر الذي طال بيت الرسالة ومهبط الملائكة.
(إن الصديقة الزهراء تفضح الإنحراف المقنّع بقبرها المجهول، وايضاً بقبر ولدها السقط)، ولعل هذا ما يفسر لنا سر طلب الصديقة الطاهرة الإبقاء على مكان قبرها مجهولاً، وجاء في التاريخ إن القوم آنذاك أصروا على أن يكونوا من بين المشيعين والمشاركين في مراسيم الصلاة والدفن، لكن الصديقة الطاهرة والبطلة في هذا الصراع الحضاري، فوتت الفرصة عليهم، وسجلت موقفاً تاريخياً لن يمح حتى قيام الساعة، وبالنتيجة فان السؤال عن قبر الزهراء هو سؤال عن سبب وفاتها والظروف والملابسات التي أحاطت بتلك الفترة؟ وعن مكانة الزهراء في خارطة الاسلام ، وفي نفس الوقت يُثار السؤال عن حقيقة القوم الآخرين وما فعلوه؟
وبامكان كل واحد منّا أن يقتفي أثر الصديقة الطاهرة في محاربتها للإنحراف المقنّع الذي نشهده أمامنا في أكثر من منطقة في البلاد الاسلامية، وما يسببه من فتن طائفية، وسفك للدماء وانتهاك الأعراَض والحرمات، وذلك متاحٌ من خلال إقامة مجالس الذكر والوعظ الديني (لأنها منظورة)، فقد جاء في الحديث الشريف : (...إني أحب هذه المجالس)، وإذا كان أهل البيت (صلوات الله عليهم) يحبون المجالس الحسينية والفاطمية ، فلا شك إنها منظورة من قبلهم، وهم قادرون بإذن الله على أن يستجيبوا للآهات والاستغاثات التي تنطلق من هنا وهناك من بلاد المسلمين حيث يعاني المسلمون ولاسيما شيعة أهل البيت (صلوات الله عليهم) من أبشع أنواع الظلم والإضطهاد على يد أشياع وأتباع المقنعين الأوائل ، الذين ابتدعوا اليوم مقولة (التكفير) وإلغاء الاخرين ، وهي امتداد طبيعي للأعمال التي قام به أولئك مع الصديقة الطاهرة ومع أمير المؤمنين وبقية أئمة الهدى (صلوات الله عليهم).
مؤسسة الفقيه الشيرازي الثقافية
وصلى الله تعالى على نبيه الكريم محمد وآله أجمعين
والحمد لله رب العالمين