اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
وصلنا معكم الى نعم خديجة بنت خويلد الغنية بمالها وجمالها وعزها، ومجدها تبعث الى محمد بن عبد الله الصادق الأمين وتطلب اليه الزواج حباً في شخصه، وتفانياً في روحه ونفسه.
نتابع الان
كان صلوات الله عليه في ذلك الحين شاباً في أواسّط العقد الثالث من عمره المبارك وهو يتمتع بكل معاني الكمال من الجمال والعزة والكرامة وسمو المكانة وعلو الرتبة وقوة الشخصية وقد كان يتمكن بسهولة أن يخطب له أي فتاة من فتيات قريش مهما علت بشأنها وجمالها.
فهو منار شباب قريش والمقدم عليهم في كل مضمار، ولكنه بدافع خفي وجد نفسه يندفع الى خديجة بنت خويلد السيدة التي تكبره بخمسة عشر سنة متجرداً عن العواطف الشهوانية، والأهواء المادية مترفعاً عن كل ما يصبو إليه غيره من متعة جسدية، وغايات رخيصة.
فهو كان يرى في الزواج شركة روحية مقدسة لا تطغو عليها المادة ولا تتحكم فيها النزعات الحيوانية.
فالزواج في نظر الرسول الأعظم امتزاج روحين، ووحدة هدف، وغاية وتعانق قلبين طاهرين قبل أن يكون صلة جسدية.
ومن أجدر من خديجة بنت خويلد بأن تحتل في قلب محمد وفي حياته مكان الصدارة، وفعلاً فقد دخلت خديجة في حياة رجلها الخالد كإمرأة رابعة، ولكنها لم تدخل في حياته وهو محمد بن عبد الله فحسب، بل وهو رسول الله وخاتم أنبيائه أيضاً.
وهكذا كانا مفترقين ثمّ جمعهما القدر السماوي دون أن يشعرا ليضم ثروة خديجة إلى دعوة محمد؛ وما أحوج الدعوة إلى رصيد تسلك به الطريق، وقد وجد كل منهما ضالته المنشودة في قرينه وصفيه، فخديجة بنت خويلد ربيبة الترف والدلال والمتقلبة في أحضان النعمة والثراء، تفنى في رجلها الحبيب الفقير وتتعرف في كل لحظة على معنى من معانيه، يزيدها فناءً فيه ويحبّب إليها ذلك الفناء.
ومحمد بن عبد الله أحسن رجال قريش شكلاً وأعرقهم أصلاً وأصدقهم لساناً وأقواهم جناناً وأذيعهم صيتاً وأعلاهم درجةً وهو في الخامسة والعشرين من عمره الشريف يخلص لزوجته الوفية خديجة وهي في الأربعين من عمرها المبارك. يخلص لها خلوص الزوج الواثق ويركن الى حنانها وعطفها ركون الإبن إلى أمه.
وخديجة هي رابعة امرأة دخلت في حياته صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن أتراه كان نسي النساء الثلاث اللاتي تقدمنها... أتراه قد أهمل ذكرهن أو تجاهل وجودهن في حياته الماضية؟
كلا؛ فإن محمداً بن عبد الله لم يكن من النمط الذي ينسى من أحبوه، أو يتجاهل ذكر من لم يتجاهلوه.
وما أكثر ما كان يسرح مع أفكاره في ساعات عزلته، ويرجع بها إلى الوراء إلى أيام حداثته، وصباه الأول، من عهد أمه آمنة إلى مرضعته حليمة، إلى زوجة عمه الكريمة فاطمة بنت أسد، ويقف معهن عند كل لمحة حب، أو لفتة عطف، ويدعو لهن بالرحمة والغفران. وكان يرى حياته الماضية، وكأنها شريط يتتابع ويتلاحق أمام عينيه بكل ما يحمل هذا الشريط من إكرام وآمال ومحن، ومصاعب.
ثمّ يعود ليستقر بأفكاره عند واقعه الحالي، ويُركِّز على خديجة هذه السيدة الطاهرة التي يحس بها كقوة خفية تشد ظهره، وتسند كيانه، وكأنه كان يعلم أنها سوف تقف معه، إذ لا واقف غيرها، وتصدقه حين لا مصدق سواها. وتمضي السنون تتلاحق، والأحداث تتابع ومحمد بن عبد الله هو وخديجة بنت خويلد يشقان
طريقهما معاً في الحياة وقد ظللتهما سماء الحب وأحاطتهما يد الأخلاص والوفاء.
وكان صلوات الله عليه كثيراً ما يعتكف الساعات الطوال في غار حراء، يعتزل بها الدنيا بروحه وفكره، وجسده، ويروح يسبح في ملكوت السماوات.
وما أكثر ما كانت تستبطئه خديجة وتفتقد قدومه في وقته المعين، فتذهب بنفسها غير واثقة من أن تنيب عنها خادمه أو ترسل دونها رسولاً. تذهب لتفتش عنه في الأماكن التي تعلم أنه يزورها دائماً، وخصوصاً غار حراء.. فقد كان هو الخلوة المفضلة لدى رسول الله (ص).
وقد كانت خديجة تحمل له بيدها الطعام والماء، ولا تذهب إلاّ للإطمئنان على سلامته، فقد كانت تشجعه على هذا الاعتكاف لثقتها من أن وراء هذه الخلوات رسالة مقدسة سوف يحملها بعلها الغالي.
ولذلك فلم تكن تتبرم لغيابه أو تعتب عليه وكانت تشعر بروحها وهي تذهب معه أينما ذهب، فهي معتكفة معه في الغار، وهي سارحة واياه في البراري والقفار، فإن فاتها أن تسايره جسمياً فإنها لم تكن لتفارقه روحياً، وفكرياً.
وكانت تتابع حركاته وسكناته بعينها الساهرة الحنون وهي رفيقة به عطوفة عليه..
وفي أحد الأيام يدخل على خديجة زوجها المصطفى بعد أن كان قد أمضى في غار حراء الساعات الطوال، فتنشط لاستقباله هاشّة باشَّة ولكنها تنكر منه حاله ولونه وتنكر منه ما يبدو عليه من ضعف وإعياء، فهو شاحب اللون مجلل بالعرق، ويطلب إليها أن تدثره، وهو يرتعد. فتدثره خديجة وهي ملحاحة في التعرف إلى ما يخامره، فلم تعهد بمحمد ضعفاً، ولم يصدف لها أن رأت الأضطراب بادياً عليه كما تراه الآن وهي تعلم أن زوجها الحبيب لا يضعف، ولا يتخاذل لأي سبب مهما كان مؤثراً ومهما كان صعباً. ولذلك فهي تسأله في إصرار وإلحاح وهو يتهرب من الجواب ويماطل في الرد، ولكن خديجة الزوجة وخديجة الرفيقة والصديقة تأبى إلاّ أن تتعرف إلى حاله، وتفهم السبب كيما لا تتأخر عن موقفها الطبيعي في السير معه في كل مضمار، وإلى كل غاية.
وأخيراً يخبرها الرسول بما سمع ويشرح لها ما أحس ويقص عليها خبر الروح الذي فاجأه في غار حراء وقال له: إقرأ فيجيبه ما أنا بقارئ فيكررها عليه ثلاثاً، ويرد الجواب نفسه ثلاثاً أيضاً فيقول، الروح:
(إقرأ بأسم ربك الذي خلق* خلق الإنسان من علق* إقرأ وربك الأكرم* الذي علم بالقلم* علم الإنسان ما لم يعلم)
صدق الله العظيم
وهنا تسأله خديجة وهي في نشوة روحية نشطة: ألم تسأله من أنت، ألم تسأله عن إسمه؟ فيجيبها صلوات الله عليه قائلاً: سمعته يقول: أنا جبرئيل جئت أبلغك رسالة ربك، ثمّ يردف، وكأنه يريد أن يبث خديجة ما يحس وأن يشاركها بأفكارها.
قال: لقد خشيت على نفسي.
فتجيبه رضوان الله عليها باندفاع وحماس.
كلا والله، ما يخزيك الله أبداً إنك لتصل الرحم، وتحمل الكلّ، وتكسب المعدوم وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق، وتصدق الحديث، وتؤدي الأمانة.