اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
وقد كانت المرأة المسلمة تسمع بأذنيها نعي أعزائها وأحبائها وهي لهفانة في الوقت نفسه للإطمئنان على سلامة رسول الله. وعلى هذا فلا عجب إذاً إذا كانت خديجة زوجة الرسول أول مصدقة به وأقوى ساعد لديه. والواقع أنني حينما أراجع سير النساء المسلمات في صدر الإسلام وأقرأ تضحياتهن ومواقفهن أكاد أسأل جادةً هل نحن مسلمات حقاً.
هذا الإسلام هو الذي نوَّر قلب خديجة بعد إذ انبثقت أنواره من غار حراء ومن بيتها هي بالذات. ولهذا فقد كانت خديجة (رض) جديرة بهذا الاندفاع الإسلامي وهي التي أصطفت محمداً لنفسها منذ زمن بعيد، وبعد أن عرفت أنه صاحب رسالة مقدسة، ولذلك فهي لم تفاجأ ولم تستغرب عند سماعها بخبر الوحي الذي نزل على زوجها في غار حراء. وقد قنعت من زوجها بكلمات قلائل سرعان ما صدقته بعدها وآزرته وهي أقوى ما تكون فكرة راسخة مركَّزة، وإحساساً فياضاً صادقاً.
وأستمرت خديجة أم المؤمنين تحيا بحياة الرسالة المحمدية وتستهين في سبيلها بكل المصاعب والمحن، وقد بذلت في هذا الطريق كل ما تملك من مال حتى
أصبحت وهي الغنية الواسعة الثراء فقيرة لا تملك شيئاً، وقد استنفدت بدعوتها رصيدها الضخم من المال ولم يبق منه حتى النزر القليل. فهي تطوي جوعاً إذا طوى النبي وتشبع إذ يشبع بالذي يشبع فيه، وهذا يبيِّن مدى التفاوت بينها وبين باقي أمهات المؤمنين. الفارق الذي جعل رسول الله يحن إليها الى آخر يوم من حياته الشريفة.
فهي قد بذلت للإسلام كل ما تملك يوم كان الإسلام وحيداً. وصلَّت مع رسول الله يوم لا مصلِّية غيرها. بينما أحتجت أمهات المؤمنين الأخريات على النبي، بعد أن عمت كلمة الإسلام جميع البقاع وطالبن بزيادة النفقة وتوسيع المعيشة عليهن؛ ولم تثنهن نصائح النبي عن ذلك حتى أنه جاء في الروايات أن أبا بكر دخل على النبي (ص) ومعه نساؤه فوجده حزيناً وعرف السبب في ذلك فقام على أبنته يريد أن يجأ عنقها لأنها آلمت الرسول وأعترضت طريق دعوته بمطاليبها المادية حتى نزلت الآية الكريمة (1) التي خيرت نساء النبي بين متاع الحياة الدنيا وبين رسول الله (ص) فاخترن صحبة الرسول الأعظم بعد أن قُطعت أمامهن السبل. وقد كانت خديجة صلوات الله عليها لا تألو جهداً في بذل يد العون للدعوة الإسلامية بكل ما يسعها ذلك. وقد حدث مثلاً أن فرضت قريش على بني هاشم حصاراً في منطقة تسمى بمنطقة الشِّعب أو شِعب «أبو طالب» وقد منعوا عنهم في هذا الحصار الماء والزاد، وكان الموت جوعاً يهدد جميع بني هاشم لولا أموال خديجة فإنها كانت تبعث من يشتري لهم الطعام سراً وفي أغلى ثمن، تستنصر وتستعين بأولاد إخوتها وأخواتها على ذلك، وبذلك أمَّنت الغذاء لبني هاشم المحاصرين في الشعب.
فلهذا ولغيره من المواقف الفذة في تاريخ الإسلام أحتلت رضوان الله عليها الصدارة في قلب النبي وفي حياته الشريفة.
وقد توفيت رضوان الله عليها في السنة الثالثة عشر للبعثة وقد حزن عليها رسول الله (ص) حزناً عظيماً وكانت وفاتها في عام وفاة عمه «أبو طالب»، ولذلك فقد سمِّي ذلك العام بعام الحزن لحزنه على فقدها وفقد عمه «أبو طالب». نعم توفيت خديجة المرأة الرابعة التي دخلت حياة النبي في أحرج أدوارها لم تخرج من حياته أبداً فقد خلَّفت له أغلى وأثمن ذكرى مقدسة، وهي الصدِّيقة الطاهرة فاطمة الزهراء سيدة نساء العالمين. وقد جاء في بعض الرويات أنها خلفت للنبي أربع بنات هن زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة (وسوف نناقش هذا الموضوع في محله إنشاء الله). وقد أصبحت الزهراء قطب الرحى في حياة أبيها العظيم حتى أنه كان يسميها بأم أبيها. وقد قامت منه مقام البنت والأم فهي تجهد أن تعوضه بحنانها عما افتقده بأفتقاد أمها خديجة، وهي تسعى أن تكون لرسالته كما كانت أمها من قبل. لم تمنعها حداثة السن عن التعرف إلى جميع مشاكل أبيها وآلامه مهما كانت المشاكل مهمة ومهما كانت الآلام هائلة. لم تضعف ولم تهن ولم تتردد او تتراجع. وقد جاء في رواية عن ابن مسعود قال: بينما رسول الله يصلي عند البيت وأبو جهل وأصحابه جلوس وقد نحرت جزور بالأمس فقال أبو جهل أيكم يقوم الى سلى جزور بني فلان فيضعه بين كتفي محمد إذا سجد فانبعث أشقى القوم فأخذه. فلما سجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم وضعه بين كتفيه فاستضحكوا وجعل بعضهم يميل على بعض وأنا قائم أنظر، لو كانت لي منعة لطرحته عن ظهره، والنبي ساجد لا يرفع رأسه حتى أنطلق إنسان فأخبر فاطمة فجاءت وطرحته عنه ثمّ أقبلت عليهم تؤنبهم على ذلك.
هذه إحدى الروايات التي تدل على منزلة الصديقة في قلب أبيها ومحلها من دعوته ورسالته وكأنها قد شعرت مع حداثة سنها بأنها مسؤولة عن أن تكون المرأة الخامسة في حياة رسول الله (ص) فقد واكبت سيره بكل شجاعة وإقدام.
ونحن الآن لا نكاد نتصور مدى ما كانت تتطلبه من شجاعة، هي وجميع المسلمات في ذلك العصر.
فنحن الآن، وبعد أن عمت كلمة الإسلام جميع الأقطار الإسلامية والحمد لله، لا تكاد تجرؤ إحدانا أن تجهر بالكلمة الإسلامية صريحة واضحة. وكانت الزهراء صلوات الله عليها قد أنصهرت بأفكار الإسلام روحياً وفكرياً فقد كانت وهي بنت أعظم رجل عرفه التاريخ وريحانته الغالية والتي كان النبي يدعوها بأم أبيها ويقول: فاطمة بضعة مني من أرضاها فقد أرضاني ومن أغضبها فقد أغضبني. وكان يقول حينما يقبلها إني أشم منها رائحة
الجنة، وهي الحوراء الإنسية، وكانت عنده بمنزلةٍ ما فوقها منزلة. فكانت آخر من يراه عند سفره وأول من يلقاه عند رجوعه من السفر. وكانت هي من أنحصر فيها نسله صلوات الله عليه ولم يكن رسول الله (ص) يجهل ذلك.
نعم كانت هي هكذا وكانت أكثر من هذا ولكنها ومع كل هذه المميزات الروحية والمعنوية كانت بسيطة في إسلوب حياتها لا تكاد تختلف عن أي أمرأة فقيرة، فبيتها متواضع للغاية لا يحوي إلاّ النزر القليل من الأثاث الضروري الذي لا يمكن الأستغناء عنه.
فهي مثال المرأة المسلمة المترفعة عن المواد الدنيوية والصاعدة بروحها وروحياتها إلى أفق الكمال وسماء العصمة والفضيلة. فإن النفس البشرية إذا أستنارت بنور الإسلام وإذا نفذت إلى مكنوناتها تعاليمه وحِكمه استغنت بمعنوياتها عن كل ما تحتاج إليه النفوس الضعيفة من مقومات لشخصيتها.
نعم هكذا كانت فاطمة الزهراء وهي ريحانة النبوة وزهرة الهاشميين فتاة ترعرعت في أحضان الأبوة الرحيمة، وهكذا كانت هي عروس تزف إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
عليه السلام. فقد خطبت إلى أبيها من قبل كثيرين كان منهم أكابر الصحابة والرسول يردهم بشتى الحجج والمعاذير ويقول لهم أنه ينتظر فيها أمر السماء فقد كان صلوات الله عليه يعلم أن نسله قد أنحصر في فاطمة، وأن فاطمة وبعلها وأبناءها هم الذين سوف يكونون الامتداد لرسالته ولدعوته السماوية. ولهذا فقد كان ينتظر الرجل الجدير بتحمل هذه المسؤولية فلم يكن يتوخى في زواجها مالاً ولا ثراءً ولكنه كان ينتظر لها الكفء.
وفي يوم مبارك، وبعد أن كان النبي صلى الله عليه وآله قد رد كل من تقدم لخطبة الزهراء وبما فيهم أبو بكر وعمر، أقبل علي أمير المؤمنين عليه السلام الى رسول الله (ص) كما كان يقبل، فيحييه ويجلس اليه كما كان يجلس، ولكن الرسول يحس أن أبن عمه قادم لأمر هام وقد عرف ذلك بفراسته الشخصية وبالإيجاء النبوي. فيقبل عليه وهو يسأله متلطفاً مشجعاً وكله حب وحدب على الشاب العزيز الجالس أمامه. هذا الشخص الغالي الذي آخاه وأصطفاه والذي فتح له قلبه رضيعاً ومهد له بيته صبياً.