رأى الإِمام أن يتامى فاطمة ينظرون إلى أُمّهم البارّة الحانية، وهي تلفّ في أثواب الكفن، إنها لحظة فريدة في الحياة، لا يستطيع القلم وصفها، إنها لحظة يهيج فيها الشوق الممزوج بالحزن، إنه الوداع الأخير الأخير!!
هاجت عواطف الأب العطوف على أطفاله المنكسرة قلوبهم، فلم يعقد الخيوط على الكفن، بل نادى - بصوت مختنق بالبكاء -: يا حسن يا حسين يا زينب يا أُم كلثوم هلمّوا وتزوّدوا من أُمّكم، فهذا الفراق، واللقاء في الجنة!!
كان الأطفال ينتظرون هذه الفرصة وهذا السماح لهم لكي يودّعوا تلك الحوراء، ويعبّروا عن آلامهم وأصواتهم ودموعهم المكبوتة المحبوسة، فأقبلوا مسرعين، وجعلوا يتساقطون على ذلك الجثمان الطاهر كما يتساقط الفَراش على السراج.
كانوا يبكون بأصوات خافتة، ويغسلون كفن أُمّهم الحانية بالدموع، فتجففها الآهات والزفرات.
كان المنظر مشجياً مثيراً للحزن، فالقلوب ملتهبة، والأحاسيس مشتعلة والعواطف هائجة، والأحزان ثائرة.
وهنا حدث شيء يعجز القلم عن تحليله وشرحه، وينهار أمامه قانون الطبيعة، ويأْتي دور ما وراء الطبيعة، فالقضية عجيبة في حد ذاتها، لأنها تحدّت الطبيعة والعادة: يقول علي (عليه السلام) وهو إذ ذاك يشاطر أيتام فاطمة في بكائهم وآلامهم.
يقول: (أُشهد الله أنها حنَّت وأنَّت وأخرجت يديها من الكفن، وضمَّتهما إلى صدرها مليّاً).
إن كانت حياة السيدة فاطمة الزهراء قد تعطّلت فإن أحاسيسها وإدراكها لم تتعطل، وإن كانت روحها الطاهرة قد فارقت جسدها المطهر فإن علاقة الروح لم تنقطع عن البدن بعد، فلروحها القوية أن تتصرف في جسمها في ظروف خاصة وموارد معينة.
كان ذلك المنظر العجيب مثيراً لأهل السماوات الذين كانت أبصارهم شاخصة نحو تلك النقطة من بيت علي (عليه السلام) فلا عجب إذا ضجت الملائكة وشاركت أهل البيت في بكائهم، فلا غرو إذا سمع الإِمام علي صوت أحدهم يهتف قائلاً: يا علي! ارفعهما فلقد أبكيا ملائكة السماوات وقد اشتاق الحبيب إلى حبيبه. يتقدم الإِمام ليرفع طفليه عن صدر أُمهما، وعيناه تذرفان بالدموع.
وانتهت مراسيم التكفين والتحنيط، وجاء دور الصلاة عليها ثم الدفن، لقد حضر الأفراد الذين تقرر أن يشتركوا في تشييع الجثمان ومراسم الصلاة وغيرها، وهم الذين لم يظلموا فاطمة، ولم يسكتوا أمام تلك الأحداث، ولم يكن موقفهم موقف المتفرج الذي لم يتأثر بالحوادث.
لقد حضروا في تلك الساعة المتأخرة من تلك الليلة خائفين مترقبين، إذ قد تقرر إجراء تلك المراسم ليلاً وسرّاً، واستغلال ظلمة الليل مع رعاية الهدوء والسكوت، كل ذلك لأجل تنفيذ وصايا السيدة فاطمة الحكيمة.
لقد حضروا، وهم: سلمان، عمار بن ياسر، أبو ذر الغفاري، المقداد، حذيفة، عبد الله بن مسعود، العباس بن عبد المطلب، الفضل بن العباس، عقيل، الزبير، بريدة، ونفر من بني هاشم، وشيّعوا جثمان فاطمة الزهراء البنت الوحيدة التي تركها الرسول الأقدس بين أُمته، وكأنها امرأة غريبة خاملة فقيرة في المدينة، لا يعرفها أحد وكأنها لم تكن المنزلة الرفيعة والشخصية المثالية.
هؤلاء هم المشتركون في تشييع جنازة سيدة نساء العالمين.
وتقدم الإِمام علي (عليه السلام) وصلَّى بهم على حبيبة رسول الله، قائلاً: اللهم إني راضٍ عن ابنة نبيك، اللهم إنها قد أوحشت فآنسها، اللهم إنها قد هُجِرت فَصِلها، اللهم إنها قد ظُلِمت فاحكم لها وأنت خير الحاكمين.
ثم صلَّى ركعتين ورفع يديه إلى السماء فنادى: هذه بنت نبيّك فاطمة أخرجتها من الظلمات إلى النور. فأضاءت الأرض ميلاً في ميل.
صلى الإِمام علي (عليه السلام) عليها، إذ أنها كانت معصومة، فيجب أن يصلي عليها المعصوم، فالصلاة على الميت دعاء له بالرحمة. وأما بالنسبة للمعصوم فالدعاء له أي الصلاة على جثمانه فهو من واجب المعصوم.
هذا من الناحية الشرعية، وأما من ناحية العقل والحكمة فإن السيدة فاطمة الزهراء مع جلالة قدرها، وعظم شأْنها ذهبت إلى دار رئيس الدولة يومذاك مطالبة بحقها، فكان موقف الرئيس معها كما عرفت.
ثم حضرت في المسجد وخطبت تلك الخطبة فلم تجد الإِسعاف لا من الحاضرين في المسجد، ولا من رئيس الدولة، وقد مرّ عليك أن عليّاً (عليه السلام) كان يحملها إلى بيوت المهاجرين والأنصار يستنجدهم لنصرة الزهراء فلم يجد منهم إلاَّ الجفاء.
والكارثة التي حدثت عند باب بيتها تركت في جسمها آثاراً تدوم وتدوم ولا تزول.
ومواقف المسلمين اتجاه ابنة الرسول كان لها أثر عميق في نفس السيدة فاطمة لكونها إهانة صريحة لها، وظلماً مكشوفاً واعتداءً مقصوداً، وإهداراً لكرامتها، وتضييعاً لمقامها الأسمى.
وليست هذه الأمور من القضايا التي تنسى أو تضيع، فلا بد من تنبيه المعتدين على فظاعة عملهم وتسجيل ذلك في سجل التاريخ، وذلك عن طريق الاستنكار والتعبير عن الاستيلاء العميق عن تلك الأعمال.
وإن بنود الوصية ترمز إلى أن الزهراء عاشت بعد أبيها ناقمة وغاضبة على أولئك الأفراد، واستمرت النقمة والغضب حتى الموت وبعد الموت وإلى يوم يبعثون.
فلا ترضى السيدة فاطمة أن يشيعها تلك العصابة، ولا أن يصلُّوا على جنازتها ولا يشهدوا دفنها، ولا يعرفوا قبرها، بل يبقى قبرها مخفياً من يوم وفاتها إلى يوم الفصل الذي كان ميقاتاً ليجلب هذا انتباه المسلمين وعلى الأخص الحجاج والمعتمرون الذين يزورون قبر الرسول (صلى الله عليه وآله) في المدينة المنورة، ومراقد الأئمة في البقيع، ويتساءلون عن قبرها فلا يجدون لذلك أثراً ولا خبراً.
فالقبر كان ولا زال مجهولاً عند المسلمين بسبب اختلاف المؤرخين والمحدثين فهناك أحاديث تصرّح بدفنها في البقيع، وهناك روايات أنها دفنت في حجرتها وعند توسيع المسجد النبوي الشريف صار قبرها في المسجد.
فإن صح هذا القول فإن صُوَر القبور التي صوَّرها الإِمام في البقيع كان لغرض المغالطة، وصرف الأنظار عن مدفنها الحقيقي.
وإن كان الإِمام قد دفنها في البقيع فالقبر كان ولا يزال مجهولاً.
وعلى كل تقدير: لقد حفروا القبر للسيدة فاطمة، وحفروا مرقداً لتلك الزهرة الزهراء، واللؤلؤة النوراء، وتقدّم أربعة رجال وهم علي والعباس والفضل بن العباس ورابع يحملون ذلك الجسد النحيف.
ونزل علي (عليه السلام) إلى القبر لأنه وليّ أمرها، وأولى الناس بأمورها، واستلم بضعة رسول الله (صلى الله عليه وآله) وأضجعها في لحدها، ووضع ذلك الخد الذي طالما تعفَّر بين يدي الله تعالى في حال السجود ذلك الخد الذي كان يقبّله رسول الله (صلى الله عليه وآله) في كل ليلة قبل أن ينام وضع ذلك الخد على تراب القبر وقال: يا أرض أستودعكِ وديعتي، هذه بنت رسول الله، بسم الله الرحمن الرحيم، بسم الله وبالله وعلى ملة رسول الله محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله).
سلَّمتك أيتها الصّدّيقة إلى من هو أولى بك مني، ورضيت لك بما رضي الله تعالى لك. ثم قرأ (منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى).
لقد دفنوا كتلة من المواهب والفضائل. لقد أخفوا في بطون التراب الحوراء الإِنسية.
وسوّى علي (عليه السلام) قبرها، وكأنه في تلك المراحل كان جرحه حاراً، فلا يشعر بالألم، والإنسان قد يصاب بجراح أو كسر فلا يشعر بالألم في وقته، وبعد مضي لحظات يشتد به الوجع، ويتركه يصرخ ويصيح.
كان جثمان السيدة فاطمة نصب عين علي في تغسيلها وتكفينها والصلاة عليها ودفنها، والآن قد غابت الزهراء عن الأبصار، واختفت عن الأعين.
لقد حان أن يشعر الإمام علي بألم المصاب، ويشتد به الوجع أشد ما يمكن.
كانت تلك اللحظات الحرجة من تلك الليلة مؤلمة ومشجية فلقد كان قلب الإِمام مضغوطاً عليه بسبب المصيبة.
لقد ماتت فاطمة الزهراء شهيدة الاضطهاد، قتيلة الظلم والاعتداء.
وفَقَدَ الإِمام بفقدها شريكة حياته، وأحبّ الناس إليه وإلى رسول الله.
فَقَدَ سيدةً في ريعان شبابها، ومقتبل عمرها، ونضارة حياتها.
فَقَدَ سيدةً انسجمت معه ديناً ودنيا وآخرة.
فَقَدَ زوجةً شاركته في مصائب حياته ومرارتها بكل صير.
فَقَدَ حوراء ليست من مستويات نساء الدنيا.
سوف لا يجد الإِمام على وجه الأرض مثلها عصمة ونزاهة وتقوى وعلماً وكمالاً وشرفاً، وفضائل ومكارم وغيرها.
فلا يمكن له أن يتسلى بامرأة أُخرى.
ومما زاد في المصيبة، وضاعف في أبعاد الكارثة أن السيدة أوصت إلى زوجها أن يكون تشييع جثمانها ليلاً وسرّاً، وبإخفاء قبرها بحيث لا يكون لقبرها أثر ولا علامة.
ولهذا هاجت به الأحزان لمّا نفض يده من تراب القبر فأرسل دموعه على خديه وحوّل وجهه إلى قبر رسول الله (صلى الله عليه وآله) ثم قال:
السلام عليك يا رسول الله عني. السلام عليك عن ابنتك وزائرتك. والبائتة في الثرى ببقعتك.
كتاب الزهراء من المهد إلى اللحد