وفي وقعة صفين لابن مزاحم: (عن صعصعة بن صوحان أن علي بن أبي طالب صافَّ أهل الشام حتى برز رجل من حمير من آل ذي يزن ، اسمه كريب بن الصباح ، ليس في أهل الشام يومئذ رجل أشهر شدةً بالبأس منه ، ثم نادى: من يبارز؟ فبرز إليه المرتفع بن الوضاح الزبيدي ، فقَتَلَ المرتفع . ثم نادى: من يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن الجلاح فقتله؟ ثم نادى: من يبارز؟ فبرز إليه عائذ بن مسروق الهمداني فقتل عائذاً ، ثم رمى بأجسادهم بعضها فوق بعض ، ثم قام عليها بغياً واعتداء ثم نادى: هل بقي من مبارز؟! فبرز إليه علي عليه السلام ثم ناداه: ويحك ياكريب ، إني أحذرك الله وبأسه ونقمته وأدعوك إلى سنة الله وسنة رسوله ، ويحك لايدخلنك ابن آكلة الأكباد النار ! فكان جوابه أن قال: ما أكثر ما قد سمعنا هذه المقالة منك فلا حاجة لنا فيها ، أقدم إذا شئت. من يشتري سيفي وهذا أثره؟ فقال عليه عليه السلام : لاحول ولاقوة إلا بالله . ثم مشى إليه فلم يمهله أن ضربه ضربة خرَّ منها قتيلاً يتشحط في دمه . ثم نادى عليه السلام : من يبارز؟ فبرز إليه الحارث بن وداعة الحميري فقَتَلَ الحارث . ثم نادى: من يبارز؟ فبرز إليه المطاع بن المطلب القيني فقتل مطاعاً ، ثم نادى: من يبارز؟ فلم يبرز إليه أحد !
ثم إن علياً نادى: يامعشر المسلمين: الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ . ويحك يا معاوية هلمَّ إليَّ فبارزني ولايُقتلنَّ الناس فيما بيننا !
فقال عمرو: إغتنمه منتهزاً قد قتل ثلاثة من أبطال العرب ، وإني أطمع أن يظفرك الله به . فقال معاوية: ويحك يا عمرو ، والله إن تريد إلا أن أقتل فتصيب الخلافة بعدي ! إذهب إليك ، فليس مثلي يخدع) !
وفي وقعة صفين : (أن أبرهة بن الصباح بن أبرهة الحميري قام فقال: ويلكم يا معشر أهل اليمن ، والله إني لأظن أن قد أذن بفنائكم ، ويحكم خلوا بين هذين الرجلين فليقتتلا ، فأيهما قتل صاحبه مِلنا معه جميعاً . وكان أبرهة من رؤساء أصحاب معاوية . فبلغ ذلك علياً فقال: صدق أبرهة بن الصباح ، والله ما سمعت بخطبة منذ وردت الشام أنا بها أشد سروراً مني بهذه .
وبلغ معاوية كلام أبرهة فتأخر آخر الصفوف وقال لمن حوله: إني لأظن أبرهة مصاباً في عقله . فأقبل أهل الشام يقولون: والله إن أبرهة لأفضلنا ديناً ورأياً وبأساً ولكن معاوية كره مبارزة علي . فقال أبرهة في ذلك...) .
ثم أورد أبياتاً لأبرهة يظهر منها أنه ترك معاوية ، ولو بقي معه لقتله !
قال ابن أبي الحديد: (وأما العبادة ، فكان أعبد الناس ، وأكثرهم صلاة وصوماً ، ومنه تعلم الناس صلاة الليل وملازمة الأوراد وقيام النافلة ! وما ظنك برجل يبلغ من محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير فيصلي عليه ورده والسهام تقع بين يديه ، وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً فلا يرتاع لذلك ، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته ! وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده ! وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته ووقفت على ما فيها من تعظيم الله سبحانه وإجلاله ، وما تتضمنه من الخضوع لهيبته والخشوع لعزته و الإستخذاء له عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص ، وفهمت من أي قلب خرجت ، وعلى أي لسان جرت!) .
وفي كشف الغمة لابن أبي الفتح الإربلي : (وأمير المؤمنين فارس ذلك الجمع وأسده ، وإمامه ومولاه وسيده ، وهادي من اتبعه ومرشده ، يهدر كالفحل ويزأر كالأسد ، ويفرقهم ويجمعهم كفعله بالنقد ، لايعترضه في إقامة الحق وإدحاض الباطل فتور ، ولا يلمُّ به في إعلاء كلمة الله وخزي أعدائه قصور ، يختطف النفوس ويقتطف الرؤوس ، ويلقى بطلاقة وجهه اليوم العبوس ، ويذل بسطوة بأسه الأسود السود ، والفرسان الشؤوس ، ويخجل بأنواره في ليل القتام الأقمار والشموس ، فما لقي شجاعاً إلا وأراق دمه ، ولا بطلاً إلا وزلزل قدمه ، ولا مريداً إلا أعدمه ، ولا قاسطاً إلا قصر عمره وأطال ندمه ، ولا جمع نفاق إلا فرقه ، ولا بناء ضلال إلا هدمه ، وكان كلما قتل فارساً أعلن بالتكبير فأحصيت تكبيراته ليلة الهرير فكانت خمسمائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة ، بخمسمائة وثلاث وعشرين قتيلاً من أصحاب السعير ! وقيل: إنه في تلك الليلة فتق نَيْفَقَ درعه ، لثقل ما كان يسيل من الدم على ذراعه ! وقيل: إن قتلاه عرفوا في النهار ، فإن ضرباته كانت على وتيرة واحدة ، إن ضرب طولاً قد ! أو عرضاً قطّ ! وكانت كأنها مكواة بالنار) !
وقال العلامة الحلي في كشف اليقين : (وفي ليلة الهرير باشر الحرب بنفسه خاصة ، وكان كلما قتل قتيلاً كبَّرَ ، فعُدَّ تكبيره فبلغ خمسمائة وثلاثاً وعشرين تكبيرة ، وعد قتلى الفريقين في صبيحة تلك الليلة ، فبلغت ستة وثلاثين ألف قتيل. واستظهر حينئذ أصحاب أمير المؤمنين عليه السلام وزحف مالك الأشتر حتى ألجأهم إلى معسكرهم . فلما رأى عمرو بن العاص الحال قال لمعاوية: نرفع المصاحف وندعوهم إلى كتاب الله . فقال معاوية:أصبتَ . ورفعوها فرجع القراء عن القتال . فقال أمير المؤمنين عليه السلام : إنها خديعة عمرو العاص ، ليسوا من رجال القرآن ! فلم يقبلوا وقالوا:لا بد أن تردَّ الأشتر وإلا قتلناك أو سلمناك إليهم !! فأنفذ يطلب الأشتر فقال: قد أشرفت على الفتح وليس وقت طلبي ! فعرَّفه اختلال أصحابه وأنه إن لم يرجع قتلوه أو سلموه إلى معاوية ! فرجع وعنَّف القراء وضرب وجه دوابهم فلم يرجعوا ! فوضعت الحرب أوزارها....!
فعين معاوية عمرو بن العاص ، وعيَّن أمير المؤمنين عليه السلام عبد الله بن العباس ، فلم يوافقوا قال: فأبو الأسود ، فأبوا واختاروا أبا موسى الأشعري . فقال عليه السلام : أبو موسى مستضعف وهواه مع غيرنا . فقالوا: لا بد منه ، وحكَّموه ، فخدع عمرو بن العاص أبا موسى وحمله على خلع أمير المؤمنين وأنه يخلع معاوية ، وأمره بالتقدم حيث هو أكبر سناً ففعل أبو موسى ذلك ، ثم قال:يا عمرو قم فافعل كذلك . فقام وأقرها في معاوية ، فشتمه أبو موسى وتلاعنا ) !
جواهر التاريخ ج1 للكوراني