اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
وقد عرفت الزهراء كل هذا ولأجل هذا رضيت بابن عمها وآثرت بيته على البقاء في بيت أبيها. ولا دخل لآي امرأة من نساء النبي في زواجها ودواعيه، وإنما أعرضت عن الزواج لعدم وجود الكفء، وأقدمت عليه بعد أن وثقت من كفاءة الزوج.
ولا أدري كيف سمحت الدكتورة بنت الشاطيء لنفسها أن تفسر قبول فاطمة للزواج بدخول عائشة في حياة النبي، وتقلص مكانة البنت في قلب أبيها. هذه البنت التي كانت كل شيء لآبيها في قلبه وحياته. وقد جاء في الاستيعاب عن السيدة عائشة نفسها أنها سُئلت أي الناس كان أحب إلى رسول الله؟ قالت: فاطمة فسُئلت: فمن الرجل؟ قالت: زوجها. وجاءت هذه الرواية أيضاً عن الترمذي: وفي الاستيعاب بسنده عن ابن بريدة عن أبيه، وفي المستدرك بسنده عن جميع بن عمير وصعصعة، وقد رواه الترمذي بسنده عن بريدة مثله. وروي الحاكم في المستدرك وصححه بسنده عن جميع بن عمير قال: دخلت مع أمي على عائشة فسمعتها من وراء الحجاب وهي تسألها عن علي فقالت تسألينني عن رجل والله ما أعلم رجلاً كان أحب إلى رسول الله صلي الله عليه وآله وسلم من علي، ولا في الأرض امرأة كانت أحب إلى رسول الله من امرأته فاطمة؟ وقد كان رسول الله يكرر دائماً أن فاطمة بضعة مني يريبني ما رابها ويؤذيني ما آذاها وأن فاطمة شجنة مني، يبسطني ما يبسطها ويقبضني ما يقبضها إلى غير ذلك من الروايات الكثيرة الواضحة.
ونشطت أم سلمة لكي تجهز العروس الغالية فاشترت لها قميصاً بسبعة دراهم وخماراً بأربعة دراهم وقطيفة سوداء خيبرية وسريراً مزملاً بشريط وفراشين من خيش حَشوُ أحدهما ليف، وحَشوُ الآخر من صوف الغنم، وأربع مرافق من أدم الطائف حَشوُها إذخر، وستراً رقيقاً من صوف، وحصيراً هجرياً ورحى لليد ومخضباً من نحاس، وهو إناء تغسل فيه الثياب، وسقاءاً من أدم وقبساً للبن وشناً للماء ومطهرة مزفتة، وجرة خضراء وكوزاً من خزف ونطعاً من أدم وعباءة قطوانية وقربة ماء. ولما أتمت أم سلمة هذا الجهاز البسيط الرائع روعة قدسية لا متناهية، جاءت إلى رسول الله صلوات الله عليه فجعل يقلبه بيده الكريمة وهو يقول: بارك الله لأهل البيت. ثم إنه رفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم بارك لقوم جل أنيتهم الخزف. وفي بعض الروايات أنه استعبر وبكى وهو يقلب جهاز حبيبته المتواضع. وكان العريس مشغولاً بدوره أيضاً يجهز بيته ويهيِّئُهُ لاستقبال ابنة رسول الله. وكان جهاز الإِمام صلوات الله عليه أن نشر رملاً ليناً في صحن الدار ونصب خشبة من حائط إلى حائط للثياب وبسط إهاب كبش ومخدة ليف: وفي رواية ابن سعد عن بعض من حضرن عرس فاطمة قلن: دخلنا البيت مع العروس فإذا إهاب من شاة على مصطبة ووسادة فيها ليف وقربة ومنخل ومنشفة وقدح، وهذا ما روي عن أثاث أمير المؤمنين وهو في طريقه لمصاهرة رسول الله. وعندما أتم الإِمام تجهيز بيته وتهيئته. وعلم أصحابه أنه قد أكمل ذلك قال له جعفر وعقيل: ألا تسأل رسول الله يدخل عليك أهلك؟ فقال لهم: الحياء يمنعني من ذلك. فقاما عنه ولقيا أم أيمن مولاة رسول الله فذكرا لها ذلك فدخلت إلى أم سلمة فأعلمتها وأعلمت نساء النبي أن علياً قد أتم تجهيز بيته، وهو يرغب أن ينقل إليه أهله. فاجتمعن عند رسول الله وقلن: فديناك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله إنا قد اجتمعنا لأمر لو كانت خديجة في الأحياء لقُرَّت عينها به. وروي عن أم سلمة أنها قالت لما ذكرنا له خديجة بكى رسول الله وقال: خديجة وأين مثل خديجة، صدقتني حين كذبني الناس ووازرتني على دين الله وأعانتني عليه بمالها، إن الله عز وجل أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب الزمرد لا صخب فيه ولا نصب. وقالت أم سلمة فديناك بآبائنا وأمهاتنا إنك لم تذكر من خديجة أمراً إلا وقد كانت كذلك غير أنها قد مضت إلى ربها فهنأها الله بذلك وجمع بيننا وبينها في الجنة. يا رسول الله هذا أخوك وابن عمك علي بن أبي طالب يحب أن تدخل عليه زوجته. فقال النبي: حباً وكرامة. ثم إنه دعا بعلي فدخل وهو مطرق حياءاً وقامت أزواج النبي ودخلن البيت فسأله النبي أتحب أن أدخل عليك أهلك فأجاب علي وهو مطرق: أجل فداك أبي وأمي. فقال: أُدخلها عليك إنشاء الله. ثم قام إلى نسائه وأمرهن أن يزين فاطمة ويطيبنها ويصلحن من شأنها في حجرة أم سلمة وأن يفرشن لها بيتها الذي هيأه ابن عمها.
فدبت الحركة في بيت النبوة وعمت الفرحة على وجوه أهل البيت وشاعت ابتسامة محببة على وجه الرسول وهو يرى نفس الابتسامة قد غمرت وجه ابن عمه وأخيه وغمرت قلب الرسول موجة من رضاء لما آنسه على ابن عمه من لهفة وشوق ولما أحس به من نشاط حيوي شاع على علي في حركاته وتصرفاته. وفُرش بيت العروس الجديد وزُيِّنت العروس وطُيِّبت ونُحرت الذبائح وأُطعم الطعام، وأمر النبي صلى الله عليه واله وسلم أن ينادي على رأس داره: أجيبوا رسول الله، فبسط النطوع في المسجد وصدر الناس وهم أكثر من أربعة آلاف رجل وامرأة رفعوا ما أرادوا ولم ينقص من الطعام شيء. ثم دعا رسول الله بالصحائف فملئت، ووجهها إلى منازل أزواجه ثم أخذ صحفةً فقال هذه لفاطمة وبعلها وبعد أن أكل الناس وشبع كل جائع أتى رسول الله ببغلته الشهباء، وثنى عليها قطيفة وجاء إلى فاطمة الزهراء وهي بين نساء المسلمين وقد هيأنها للزفاف، وأخذ بيدها وقال لها اركبي ثم ساعدها على الركوب وأمر سلمان أن يقود البغلة وسار صلوات الله عليه خلفها ومعه حمزة وجعفروعقيل وبنو هاشم كلهم مشهرين سيوفهم وهم يكبرون ويهللون. ومشت نساء النبي وراء العروس وهن يرجزن ويكبرن، ونساء المسلمين من حولهن يتلون الأشعار في مدح العروسين حتى دخلن الدار المباركة، وأنفذ رسول الله إلى علي فدعاه وأخذ بيد فاطمة فوضعها في يده وقال بارك الله لك في ابنة رسول الله ثم جمعهما إلى صدره وقبل بين أعينهما، وقال لعلي: يا علي نعم الزوجة زوجتك. ولفاطمة: يا فاطمة نعم البعل بعلك. ثم دعا بماء فأخذ منه جرعة فتمضمض بها ثم مجها في القصب وصب منه على رأسها ونضح على صدرها وفعل بعلي مثل ذلك وقال: اللهم بارك فيهما وبارك عليهما وبارك لهما في نسلهما ثم أنه قام لينصرف فلم تملك فاطمة الزهراء دمعها ولحظ ذلك أبوها فتمهل برهة ثم قبلها في حنو.
وقال أنه تركها وديعة عند أقوى الناس إيماناً وأكثرهم علماً وأفضلهم أخلاقاً وأعلاهم نفساً. ثم انصرف وهو يدعو للعروسين وكانت أطياف خديجة في تلك الساعة تعاوده ملحاحة، فقد شعر في تلك الليلة بفراغ لخديجة عجز حتى هو أن يسده بالنسبة لابنتهما الغالية. وما أكثر ما كان يشعر بهذا الفراغ في شتى المناسبات والظروف. وبهذا بدأت الزهراء حياتها الجديدة في بيت الزوجية السعيد، البيت الذي شهد
أسعد مناسبات أهل بيت النبوة، وأصبح مصدراً لإشعاعات الرسالة ومنبعاً زاخراً بالخير والبركة وقد تلاشت القيم المادية في أرجائه حتى استحالت إلى لا شيء وتعالت المثل الروحانية فيه فأصبحت كل شيء.
وأما أخوات الزهراء الثلاث فهناك شك من الناحية التاريخية في بنوتهن للرسول (ص) حتى ذهب بعض المؤرخين إلى التأكيد على أنهن ربيباته وبنات السيدة خديجة من زوجها الأسبق، ولهذا الشك مبرراته التاريخية فنحن إذا جمعنا بين طائفة من المسلمات التاريخية أنتهينا حتماً إلى الشك في بنوتهن على أقل تقدير. فالتاريخ يقرر:
أولاً - أن المدة التي قضاها النبي في حياته الزوجية مع خديجة قبل البعثة لا تزيد علي خمسة عشر عاماً لأنه تزوج في الخامسة والعشرين من عمره المبارك وبعث في الأربعين.
ثانياً - إن زينب هي كبرى الأخوات الثلاث وتصغرها رقيه بثلاث سنوات وأم كلثوم أصغر منهما معاً وإن لم يحدد التاريخ التفاوت بينها وبين أختيها بالضبط.
وثالثاً - إن الأخوات الثلاث للزهراء كن قد تزوجن جميعاً قبل البعثة وسعدن في حياتهن الزوجية وأنجبت بعضهن أولاداً ثمّ أرجعن بعد البعثة إلى بيت النبي بدافع من التنكيل به وإحراجه.
هذه مسلّمات تاريخية ثلاثة إذا جمعنا بينها كان من الطبيعي أن تلقي ظلالاً من الشك أو مبررات لإنكار بنوة الأخوات الثلاث للرسول الأعظم لأنهن لو كن بناته لما كان من الممكن أن يزيد عمر كبراهن وهي زينب عن أربعة عشر عاماً في وقت البعثة ولا عمر رقية عن أحد عشر سنة ولا عمر أم كلثوم عن عشر سنوات على أكثر تقدير، لأن الفاصل الزمني بين بدء الحياة الزوجية للنبي وخديجة وبين البعثة خمسة عشر سنة كما تقرره المسلمة التاريخية الأولى؛ وبعد أخذ الفوارق التي تقررها المسلمة التاريخية الثانية بين أعمار الأخوات الثلاث ينتج ما قررناه من عدم اجتياز أم كلثوم للعقد الأول من عمرها في وقت البعثة، وهذا لا ينسجم طبيعياً مع ما يحدثنا التاريخ في المسلمة التأريخية الثالثة من زواج البنات الثلاث قبل البعثة، لأن من غير المألوف أن تتزوج أم كلثوم قبل إكمال عقدها الأول وتعيش مع زوجها مدة ثم ترجع إلى بيت أبيها وهي لم تكمل العاشرة بعد.
وهكذا يتضح أن افتراض بنوة زينب ورقية وأم كلثوم للنبي يكلفنا على ضوء المسلَّمات التاريخية الثلاث السابقة افتراضاً آخر يقضي بزواج أم كلثوم في التاسعة أو العاشرة وهذا الأفتراض وإن كان ممكناً من الناحية العقلية ولكنه غير مألوف إلى درجة قد تسمح للباحث بعدم قبوله. وأما إذا أنطلقنا في توفيقنا بين المسلمات التاريخية الثلاث. الآنفة الذكر من القول أن البنات الثلاث ربيبات الرسول فسوف يتاح لنا أن نتقدم بتاريخ ولادتهن إلى ما قبل زواج النبي بخديجة وأن نتصور أم كلثوم قبل البعثة فتاة مكتملة لها كل مؤهلات الزواج. أضف إلى هذا أن خديجة إذا كانت زوجة معطاء بدرجة أنها تعطي زوجها وهي في العقد الخامس أربعة من الأولاد كما يفترض القائلون ببنوة أخوات الزهراء الثلاث للنبي، أفليس من حقنا أن نتساءل عن عطائها لزوجها السابق قبل النبي حين كانت في أوج شبابها ونشاطها؟ إلى كثير من هذه الأسئلة التي لا نجد لها جواباً أفضل من القول بأن الأخوات الثلاث ربيبات النبي وبنات خديجة من زوجها السابق.