اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
وعلى أي حال من الأحوال فهن نساء عشن في حياة النبي سواءاً كن بناته أو ربيباته فإن قلب النبي يتسع للبعيد البعيد فضلاً عن الربيب القريب.
فأما زينب كبرى الاخوات فقد تزوجت من إبن خالتها أبو العاص بن الربيع بن عبد العزى بن عبد شمس بن عبد مناف بن قصي، وقد سعدت معه وعاشا معاً حياة زوجية هانئة حتى أنبثقت رسالة الإسلام وأنطلقت كلمة الحق ودخل الناس في دين الله أفواجاً، ولكن أبا العاص يأبى أن يترك دين آبائه، وتمنعه العصبية الجاهلية أن يسلم كما أسلم غيره، فيقال عنه أنه ترك دين الآباء والأجداد ودخل في دين حميه. وزينب وقد أسلمت مع أول من أسلم تشقى لعزوف زوجها عن الإسلام وتتألم لهذا أشد الألم فهي تُعز زوجها وتحبه لكونه قرينها ومصدر سعادتها في الحياة ولكونه أبو أمامة، ابنتها الوحيدة الغالية. ولكن الإسلام أحب اليها ورسول الله (ص) أعز عليها وتبقى تنتظر اليوم الذي يشرح الله فيه قلب زوجها للإسلام وهي تأمل أن يكون ذلك اليوم قريباً. وتظل ترقب كلمة الإسلام وهي تغزو بنورها القلوب والأرواح وتدعو الله مخلصة أن يكون زوجها فيمن اهتدى بنور الإسلام وما أكثر ما دعته إلى
الإسلام وحبذت له ذلك وعددت له أسماء أكابر الرجال الذين دخلوا في دين الله طائعين، ولكنه كان يرد عليها دائماً أنه لا يرضى أن يقال أنِّ أبا العاص أطاع زوجته وعصى عشيرته، ولهذا فقد ظلّلت حياة زينب سحابة قاتمة من الهموم والأحزان.
ويهاجر النبي الى المدينة ويخلف زينب في مكة وهي تتابع عن بعد انتصارات رسالة الإسلام وتفتخر لهذه الانتصارات وتزداد أملاً في إسلام أبي العاص، ولكنها تصحو في يوم لترى قريش وقد شاع فيها خبر هام، فقد عاد ضمضم بن عمر الغفاري وكان مسافراً في تجارة إلى الشام مع أبي سفيان فما بلغ مكة حتى وقف على بعيره وحول رحله وشق قميصه وصاح: يا معشر قريش اللطيمة اللطيمة أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد وأصحابه لا أرى لكم أن تدركوها الغوث الغوث. ولهذا فقد تهيأت قريش للحرب ونهضت لمواجهة الإسلام وفي مقدمتهم طبعاً أبو العاص زوج زينب، وعرفت زينب أنها الحرب فإما أنتصار المسلمين الذي توده وتأمل فيه وإما انتصار قريش. وإذا انتصر الإسلام فسيندحر زوجها أبو العاص وإذا انتصر أبو العاص فالويل لها بكسيرة الإسلام ورسول الله. فظلَّت زينب وليس في مكة من هي أتعس منها وأشقى حتى أتتها عاتكة بنت عبد المطلب لتخبرها بانتصار رسول الله واندحار المشركين من قريش ويهز النبأ السعيد زينب وتفرح له لحظة، ولكنها سرعان ما تذكر أن زوجها في جيوش المشركين ولابد أن يكون قتيلاً أو جريحاً ولكنها تأبى أن تظهر شيئاً من هذا لكي لا تشوه فرحة الانتصار السعيد وتسكت على جزع وفرح مزدوجين وقد كانت عينا عاتكة تلاحظها بتفحص دقيق فلاحظت عليها ما أردات أن تخفيه فأسرعت قائلة: أن أبا العاص أسير عند رسول الله هو وكثير من رجال قريش وهنا تكتمل الفرحة عند زينب وتشعر بلذة الأنتصار الحقيقي. وتنشط نساء قريش بتهيئة الفدية، وتبعث كل أمرأة منهن أكبر فدية ممكنة، فهن يغالين فيها يفاخرون بكثرتها، ولكن زينب تبعث لرسول الله فدية معنوية رمزية وهي قلادة أمها خديجة التي أهدتها لها ليلة الزفاف، وتأثر هذه الفدية المتواضعة على الرسول فهي قلادة خديجة حبيبته المصطفاة. ويطرق الى الأرض لحضة ثمّ يرفع رأسه ليقول لأصحابه: إذا رأيتم إطلاق أسيرها فأطلقوه. فلا يتردد المسلمون لحظة في إطلاق سراح أبي العاص. ويستدعيه رسول الله ويسر إليه أمراً ويلحق أبو العاص بأهله فتستقبله زينب فرحانة فخورة وهي تأمل أن يكون قد أسلم واهتدى الى الحق، ولكنها تراه ليس كما تعهد فقد بدا وهو مثقل بالهموم والأحزان ويقول لها والعبرات تكاد تسبق كلماته: لقد أتيت مودعاً يا زينب فقد أمرني رسول الله أن أبعث بك إليه فلا تبهت زينب لهذا الخبر ولا تستغربه مطلقاً فهي كانت تعلم أن رسول الله لن يبقيها مع أبي العاص إذا يئس من إسلامه. ثمّ إنها مشوقة الى رسول الله وإلى أخواتها الحبيبات. ولكنها ستشقى بفراق أبي العاص، وسوف تألم للبعد عنه، وسوف يشق عليها أيضاً أن ترى ابنتها امامة وهي كاليتيمة بين لداتها. وعلى كل فقد أخذت تتهيأ للسفر الى حيث الإسلام والأحباء. وسافرت بعد حصار شديد فرضته عليها قريش أنتقاماً وتنكيلاً، وخلفت وراءها أبا العاص وهي أشفق ما تكون عليه، ولم تشغلها فرحة لقاء الأحبة عن أبي أمامة فقد كانت تدعو الله دائماً وأبداً أن يهديه للإسلام. ويخرج أبو العاص في تجارة وتتعرض له قوات المسلمين في الطريق فيفر هارباً ويلتجيء إلى زينب فتحميه وترد عنه غضب المسلمين، وتعود فتدعوه الى الإسلام لكنه يسكت فلا يجيب، ويطلب إليها أن ترد إليه تجارته لأنه يأبى أن يرجع الى قومه وقد خان الأمانة فتتوسط زينب في ذلك عند المسلمين فيردوا له تجارته وأمواله كاملة ويرجع بها الى مكة ويسلم الأموال إلى أصحابها حتى يتأكد من أنه قد أبرأ ذمته من كل وديعة وأمانة.
ثمّ يرجع إلى المدينة ويدخل على رسول الله فيسلم بين يديه، ويقبل الرسول إسلامه قبولاً حسناً ويرد اليه زينب وتعود السعادة لترفرف فوقهما مرة أخرى ويخلدان الى راحة نفسية عميقة وإلى حياة زوجية سعيدة.
وأما رقية وأم كلثوم فقد خطبا الى عتبة وعتيبة ابني أبي لهب قبل الإسلام وزوجّا قبل الإسلام ولاقيا أصناف العذاب من أم جميل حمالة الحطب قبل الإسلام أيضاً.
وما انبثقت كلمة الإسلام إلاّ وأرجعت حمالة الحطب رقية وأم كلثوم إلى بيت رسول الله ظناً منها أن ذلك يؤذي الرسول ويثقل عليه. ولكن الأمر بالعكس تماماً فإن رسول الله قد سر لذلك وأنس لخلاص الأختين من الأساليب الوحشية التي كات تتفنن بها أم جميل. ويتقدم عثمان بن عفان ليتزوج رقية ويهاجر بها الهجرتين ولكنها نظراً لما لاقته من أهوال وما تحملته من مصاعب داخلية وخارجية نزلت بها العلة وتخطفتها أيدي الموت وهي في ريعان الشباب. ويعود عثمان بن عفان ليخطب اليه أم كلثوم وتتم الخطبة ويتم الزواج وتعيش أم كلثوم حتى تتوفى قبل رسول الله بمدة قليلة على بعض الرويات.
ظل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مدة بعد خديجة وهو لا يفكر في الزواج حتى جاءته خولة بنت حكيم وأخذت تحبب إليه الزواج واستئناف الحياة الزوجية، وقالت فيما قالت: إن شئت البكر وإن شئت الثيب فأجابها صلوات الله عليه: فمن البكر؟ فتقول: عائشة بنت أبي بكر. ويقول: من الثِّيب؟ فتقول: سودة بنت زمعة، وقد آمنت بك واتبعتك. فاختار سودة. وسودة هي بنت زمعة بن قيس بن عبد شمس بن لؤي، وأمها الشموس بنت قيس النجاري من الأنصار، وكان زوجها الأول ابن عمها السكران، وقد أسلما معاً وهاجرا الى الحبشة مع من هاجر في الهجرة الثانية ثمّ رجعا الى مكة، وتوفي عنها زوجها بعد رجوعهما من الهجرة. وكانت رضوان الله عليها من أسبق النساء إلى الإسلام
فآمنت وهاجرت وهجرت أهلها. وقد نجا بها زوجها الى الحبشة فراراً من إعنات المشركين لهما. فلما مات لم يكن لها ملجأ سوى أن تعود إلى أهلها فتصبأ وتؤذى، فهم يحقدون عليها لإسلامها وهجرتها وفرارها مع زوجها الى الحبشة. فهم إذانالوها سوف لا يتوانون عن النيل منها بأي ثمن ولذلك فقد اختارها رسول الله ليضمها إلى حمايته وليعوضها عما لاقت في سبيل إسلامها. وهكذا قدم رسول الله المصلحة العامة على مصلحته الشخصية والمعنى الروحي عن لذات الحسن والمال والمتاع والثيب عن البكر.
يتبـــــــــــــــــع