المريض المعافى: أمير الطاهري ـ من أهل مشهد مقيم في طهران. الحالة المرضيّة. سكتة وشلل عام. تاريخ الشفاء كانون الأوّل 1992
خرج الأب من الغرفة إلى فِناء الدار مهرولاً، وهو ينادي مندهشاً بصوت عالٍ:
ـ نور! نور!... نور أخضر!
كلّهم كانوا في الفِناء: الخال جالساً وقد أسند ظهره إلى الطُّنفُسة، وهو يدخّن النَّرجيلة. الجدّة تسكب الشاي في الفنجان. الأطفال يتراكضون في الفِناء ويلعبون. ورضا كان يسقي الجُنَينة. أمّا الأمّ فهي مشغولة عند الموقد تطبخ حساءً كانت قد نذرت طبخه وتوزيعه، في حين كانت فاطمة ترضع طفلها الصغير.
الجميع دُهِشوا لسماع صوت الأب وجَمدوا في أماكنهم: صاحت الأمّ وأخذتها غشية. نَحَّت فاطمة طفلها وركضت باتّجاه الأمّ. زعق الطفل، فحملته الجدّة وأخذت تسكته. ألقى رضا أنبوبة الماء وأسرع تلقاء أبيه. قطع الخال تدخين النرجيلة وحدّق بالأب متعجّباً. وضعت الجدّة الطفل على السرير وسجدت لله شكراً. ولمّا رفعت رأسها من السجود كانت عيناها تذرفان الدموع. بدأت الأمّ تفيق من غشيتها، فأقعدتها فاطمة وأسندتها إلى الجدار. أمّا الأب فقد ظلّ واقفاً قد أذهلته المفاجأة، وهو يحدّق في الحاضرين. قالت الأمّ لفاطمة:
ـ فاطمة.. هل سمعتِ ؟! لقد تكلّم! أبوك تكلّم!
حرّكت فاطمة رأسها وقالت كالمذهولة: ـ ها.. ؟! سمعت!
ثمّ حوّلَت نظرها إلى الأب تخاطبه: ـ أنتَ تكلّمت يا أبي.. تكلّمت!
احتضن رضا أباه وصاح:
ـ لا أصدّق يا بابا، أنت لم تنطق فقط، بل قمتَ واقفاً على قدميك.. مشيت بقدميك! الخال الذي ظلّ حتّى الآن صامتاً تزحزح عن موضعه ونهض يحتضن الأب ويقبّله:
ـ هذه معجزة.. معجزة!
ساعدت فاطمة أمَّها على النهوض لتُجلِسها على السرير قرب الجدّة. تحلّق الأولاد حول الأب الذي أخذ يحتضنهم واحداً بعد الآخر ويُمطرهم بقُبلاته. ثمّ خطا حتّى جلس إلى جوار الجدّة. كانت الجدّة جالسة وتبكي بصمت، ثمّ رفعت يديها إلى السماء وراحت تدعو. مال الأب فقبّل يد الجدّة، وقال:
ـ هذا كلّه من بركات دعاء أمّي، دعاء الأمّ لا يُردّ.
مرّة أخرى أهوت الجدّة إلى السجود، ثمّ قامت فاحتضنت ولدها وقبّلته قائلة:
ـ لمّا سمعتُ بعجز الأطبّاء عن علاجك قصدتُ الحرم وزرت نيابةً عنك، وطلبت لك من الإمام الشفاء. بكيت هناك مكسورة القلب، حتّى وقعت في غشية. وفي غشيتي رأيت الإمام مقبلاً. سألني: لماذا لا يأتي أمير لزيارتي ؟ قلت: أمير ليس هنا يا مولاي، إنّه انتقل من مشهد قبل عشر سنوات وسكن في طهران.
قال الإمام: قولي له يأتِ، فمحضرُنا لا مكان فيه لليأس.
وأفَقتُ من الغشية، وكتمت هذا الموضوع لم أُخبر به أحداً. فقط اتّصلتُ هاتفياً برضا وقلت له أن يأتي بك إلى مشهد لزيارة الإمام الغريب.
بكى الأب.. وقال: ـ آه.. كم كنتُ جافياً بلا وفاء!
ثمّ أخذ يشرح لأمّه:
ـ كنت واقفاً أُصلّي عندما شعرت فجأة بالدُّوار. صار البيت يدور في عيني، واسوَدّ كلّ شيء حولي. وقعت على الأرض، ولم أدرك بعدها أيّ شي،. ولمّا صَحَوتُ كان الدكتور عند رأسي، سمعته يقول:
ـ محتمل أن تزداد آلامه ويفقد بدنُه الإحساس. هذا نوع من السَّكتة الخطرة. الأفضل، قبلما تحدُث مضاعفات أخرى، أن يُنقَل إلى المستشفى لإجراء عمليّة.
تقدّم رضا وجلس إلى جانب الجدّة، ثمّ قال:
ـ وعَدْتُ الطبيب بذلك، وبدأتُ أُعدّ العدّة لنقله إلى المستشفى. لكنّي حين أفهمت أبي بذلك امتنع أشدّ الامتناع وقال: أموت في الدار خير من الموت على سرير المستشفى. وبعد أيّام بدأتْ حالته بالتحسّن، واقتنعنا بغلط تشخيص الطبيب.
وتدخّلت الأمّ مستدركة:
ـ لكن التشخيص ما كان فيه غلط، فبعد أسبوع أخذَتْه مرّة أخرى حالة الدُّوار وهجمَتْ عليه الآلام. وفي هذه المرّة ظهرت عليه آثار الانهيار أسرع من السابقة:
احتُبِس لسانه، وشُلّ كلّ بدنه، وتورّمت حنجرته بحيث تعسّر عليه التنفّس.
أدار الأب نظره من الجدّة إلى الأمّ، وبطرف كُمّه نشّف دمعة ترقرقت في عينيه وقال:
ـ لقد عانيتِ يا زهراء.
قالت الأمّ: ـ أنت كنت تتعذّب يا أمير، وليست لي طاقة على أن أراك هكذا.
قال الأب مُمتنّاً: ـ أنتِ عانيت أكثر منّي، درايتِني مداراة ماءٍ في صينيّة محمولة على اليد.
طأطأت الأمّ رأسها، وراحت تتأمّل في صورة الوردة المنقوشة على السجّادة تحت قدميها، ثمّ همست قائلة:
ـ أنا ما فعلت إلاّ الواجب.
فقال الأب:ـ كنتِ دائماً معي في المستشفى تمرّضينني.
وأجابت الأمّ: ـ أنتَ لم تكن قادراً على التنفّس. كنت تشخر شخيراً. وتوسّلتُ بالأطباء باكية، فرجَّحوا أن تُفتَح في حنجرتك فتحة ليسهل عليك التنفّس، وإلاّ ففي انسداد مجرى الهواء يغدو الموت مؤكَّداً. لكنّي لم أوافق على هذا رغم إصرارهم. ثمّ اتّصلت الجدّة وقالت إنها قد رأت رؤيا ويجب أخذك إلى مشهد، فهناك طبيب مُعالج. أجهشتُ بالبكاء لمّا سمعتُ هذا، فكيف نسيتُ الطبيب الحقيقيّ وقد كنّا مقيمين في جواره سنوات طويلة ؟!
خلال هذا الحوار.. كان الخال صامتاً مستغرقاً في التفكير، ثمّ إنّه خرج من صمته وسأل الأب:
ـ ذلك النور.. ماذا كان ؟ خبِّرنا عن النور الذي رأيتَه.
ـ نور أخضر دخل الغرفة يرشّ أمامه ماء الورد. أخذ يتقدم، وامتلأت الغرفة بعبير ماء الورد. جاء إليّ ورشّ على وجهي أيضاً من هذا الماء. وسمعتُ صوتاً يقول: قُم، الكلّ قلقون عليك. قلت: لا أقدر. فأمسك بيدي وأجلسني في السرير. تطلّعت إلى مُحيّاه.. فما رأيت إلاّ نوراً.
وسمعتُه مرّة ثانية يقول: قُم، فكلّهم بانتظارك. وقُمت. ما هذا يا إلهي ؟! هل أنا في حلم ؟! ثمّ لم أعُد أرى النور، وظلّت الغرفة مليئة بعطر ماء الورد المنعش. وفي حَيرتي.. مددتُ يدي إلى حنجرتي أتحسّسها فما وجدت أثراً لورم. وحرّكتُ رِجْلي فإذا هي صحيحة سالمة. نهضت وأنا لا أصدّق ما أرى، وقمت واقفاً على قدمَيّ، ثمّ عَدَوتُ من الغرفة بأقدامي التي عَهِدتُها متيبّة كالخشبة، وصرخت بلسانٍ كان قد خَرِس منذ شهور.
قال الخال وقد بدا التأثّر على وجهه: ـ معجزة.
فقالت الأم: ـ معجزةُ قلبِ الجدّة الكسير.
انحنى الأب على يد الجدّة يقبّلها، وقال: ـ أنا فداء لقلبك الكسير يا أمّي.
أمّا الجدّة فكانت تبكي، وترتجف شفتاها، ولم تَقُل شيئاً.
فقال الخال: ـ مستحيل ألاّ يفوز القلب الكسير بإجابة. الإمام الرضا عليه السّلام يجيب القلوب المنكسرة على الفور.
ثمّ استرسل الخال يوضّح:
ـ كان أبي رحمة الله عليه يحكي حادثة وقعت في أيّام حكم (نادر شاه الأفشاري). يقول:
جاء رجل أعمى لزيارة الإمام عليه السّلام يطلب شفاء عينيه. وظلّ مدّة في الحرم لهذا الغرض ولم يحصل على الشفاء. وحدَث أن كان (نادرشاه) قد جاء في أحد الأيّام إلى الزيارة، فشاهد هذا الرجل الأعمى جالساً هناك.
سأله نادر: ـ لماذا أنت جالس هنا ؟
أجاب الرجل: ـ أنا هنا «دخيل».
ـ دخيل ؟ دخيل عند مَن ؟ ولأيّ غرض ؟
ـ دخيل عند الإمام، لشفاء بصري.
تأمّل نادر قليلاً، ثمّ سأل الرجل الأعمى: ـ أتعرف مَن أنا ؟
قال الرجل: ـ كيف أستطيع أن أعرفك وأنا محروم من البصر ؟!
فقال نادر بحزم: ـ أنا نادر شاه الأفشاريّ، جئت إلى هنا للزيارة، ومتى ما أكملتُ زيارتي ووجدتك على حالك لم تُشْفَ فسأقتلك!
قال نادر هذا ودخل إلى الروضة، فوقع الرجل على الأرض باكياً لاجئاً مضطرّاً. ومرّت ساعة عاد بعدها نادر من الزيارة، فوجد الرجل قد عاد إليه بصره.
وعندئذ سأله نادر: ـ كيف شفيت ؟
قال: ـ بقلب منكسر.
تساءل نادر: ـ قلب منكسر ؟!
ـ نعم، بعد تهديدك إيّاي انكسر قلبي، ورحت أتوسّل بالإمام مضطرّاً منقطعاً فأجابني. وقبل ذلك ما كانت عندي حالة الانكسار هذه.
أكمل الخال حكاية القصة، ثمّ عاد يتّكئ على الطُّنفُسة.. وخاطب الجدّة برجاء:
ـ ادعي لي أنا أيضاً بقلبك المنكسر.. يا أُختاه.
أمّا الأب.. فكان في تلك اللحظة يصبّ على وجهه ويدَيه ماءً للوضوء، في حين كان عطر ماء الورد ما يزال يَعبَق في أنحاء الدار.
(ترجمة وإعداد: إبراهيم رفاعة من مجلّة الحرم ـ العدد 39 ـ كانون الأوّل 1996)
موقع العتبة الرضوية