بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا الى هنا
(إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ))، وهذه الجملة - وإن كانت موجهة إلى الرسول لكن - المقصود منها العموم، ولا تنافي العصمة، فإن الاشتراط يلائم المحال، كقوله تعالى (إن كان للرحمن ولد فأنا أول العابدين)، وقد تقرر في المنطق أن صدق الشرطية إنما هو بوجود العلية ونحوها لا بصدق الطرفين.
لنكمل معاً
و((الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ)) من اليهود والنصارى ((يَعْرِفُونَهُ))، أي الرسول أو هذا الحكم، أعني تغيير القبلة بأمر الله سبحانه، وإن كان الأول أقرب إلى سياق التشبيه ((كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ)) ممن لم يؤمن بالرسول ((لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، فليس عذر هؤلاء جهلهم حتى يرجى زواله، وإنما العناء الذي لا علاج له.
((الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ)) يا رسول الله، أي هذا الحق من عند الله، ((فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ))، أي الشاكين فيه، فإن المحق إذا كثرت عليه التهجمات ورمي بأنه على غير الحق يكاد يشك فيه، ولذا يثبت الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم)، كما قال تعالى (لولا ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا).
((وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ))، أي لكل أمة من الأمم طريقة ((هُوَ)) أي الله سبحانه ((مُوَلِّيهَا))، أي أمرهم بالتوجه إليها، فلا غرابة في أن يكون للمسلمين وجهة خاصة في قبلتهم، ((فَاسْتَبِقُواْ))، أي سارعوا إلى ((الْخَيْرَاتِ))، تنافسوا فيها، فإن الله موليكم هذه الطرائق، ولا تبقوا جامدين على طريقة منسوخة، فإن ذلك انصراف عن الخير إلى الشر، من المحتمل أن يكون "هو" راجعاً إلى "كل"، أي لكل فرد أو أمة طريقة في العمل والتفكير، ذلك الشخص مولي وموجه نفسه إياها، فليكن هم كل فريق وفرد أن يسابق غيره في الخيرات، ((أَيْنَ مَا تَكُونُواْ)) من بقاع الأرض ((يَأْتِ بِكُمُ اللّهُ جَمِيعًا)) يوم القيامة، حتى يجازيكم على أعمالكم، ((إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))، فيتمكن من جمعكم، ولا يفوته شيء.
كان لتحويل القبلة نحو الكعبة أسباب وعلل، العلة الأولى رغبة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في أن تحول القبلة لما عيرته اليهود، العلة الثانية أن التحويل كان للحق، وإن يكون للمسلمين ميزة خاصة يمتازون بها عن سائر الأمم، حتى في اتجاه الصلاة، العلة الثالثة أن التحويل كان لقطع حجة الناس الذين كانوا يتعجبون من كون المسلمين يدعون دينا جديدا ومع ذلك يتوجهون إلى قبلة بني إسرائيل، وتبعا لهذه العلل تكرر الأمر بالتوجه إلى المسجد الحرام، وقال الله سبحانه: ((وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ)) للسفر من البلاد ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ))، فإنه قبلة في السفر كما هو قبلة في الحضر، وفي هذا فائدة ثانية للتكرار، ((وَإِنَّهُ))، أي توجيه الوجه نحو المسجد الحرام ((لَلْحَقُّ)) الذي جاء ((مِن رَّبِّكَ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))، فمن أعرض عن هذه القبلة كان جزاءه سيئا، ومن اتبعها كان جزاءه حسنا.
((وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ)) للسفر من البلاد ((فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ)) هذا للسفر، ((وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ))، وهذه الآية جمع بين الآيتين السابقتين (ومن حيث خرجت) الآية 149 و(حيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره) الآية 144، وقد عرفت أنه كرر لفائدة العلة المذكورة في الآية، ((لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ))، أي أن تحويل القبلة، إنما هو لنقطع احتجاج الناس عليكم، حيث يقولون كيف أن المسلمين يدعون إلى دين جديد وقبلتهم هي قبلة أهل الكتاب، ((إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ))، فإن هؤلاء لا ينفعهم المنطق، فإن المعاند لا تفيده الحجة ((فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي))، فإن الخشية إنما تكون ممن بيده النفع والضر، وهؤلاء ليس بيدهم شيء منهما، وإنما كل ذلك بيد الله سبحانه، ولا يخفى أن الاستثناء منقطع كقولك إنما فعلت الفعلة الفلانية ليعرف الناس الأمر، إلا من يريد العناد، ((وَ)) بعد ذلك، فتحويل القبلة إنما كان ((لأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ)) بتمييزكم عن أهل الكتاب، وقطع تعيير اليهود، وإرجاعكم إلى بناء جدكم إبراهيم، الذي هو إحياء لذكراكم، ((وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ)) إلى الحق اهتداء كاملا، فإن في تشريف الإنسان بشرف سببا لتقريبه إلى الهداية الكاملة.
وقد أتممنا عليكم بتحويل القبلة ((كَمَا)) أنعمنا عليكم قبل ذلك بنعمة عظمى فـ((أَرْسَلْنَا فِيكُمْ)) أيها المسلمون ((رَسُولاً مِّنكُمْ)) لا من غيركم، فاخترتكم لأن تكون رسالتي بيد واحد منكم ((يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا)) وقرآننا تلاوة، ((وَيُزَكِّيكُمْ)): يطهركم من أدناس الجاهلية والقذارات الخلقية والنجاسات البدنية بإرشاده إياكم إليها، ((وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ))، ومن المعلوم أن التلاوة غير التعليم، فرب تال غير معلم، بالإضافة إلى أن التعليم فيه معنى التركيز والتثبيت، ((وَالْحِكْمَةَ)) يرشدكم بمواضع الأشياء ومواقع الخطأ والصواب، فإن الحكمة - كما عرفت - وضع كل شيء موضعه، ((وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ)) بصورة عامة، فيشمل القصص والتواريخ المفيدة وأحوال الأنبياء، وأحوال المعاد مما ينفعهم في دينهم ودنياهم.
((فَاذْكُرُونِي)) أيها المسلمون بالطاعة والعبادة، وتنفيذ الأوامر ((أَذْكُرْكُمْ)) بالنعمة والإحسان والجنان، ((وَاشْكُرُواْ لِي)) بإظهار النعمة والحمد عليها، ((وَلاَ تَكْفُرُونِ)) كفراً في الاعتقاد أو كفراً في العمل بأن لا تعملوا بأوامري.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ)) في أموركم التي تريدونها سواء كانت تحت اختياركم أم لم تكن كالصحة والغنى، ((بِالصَّبْرِ)) وتحمل النفس، فإن كثيرا من الأمور تتنجز بعد حين، فإذا صبر الإنسان تنجزت أموره ونعم براحة البال واطمئنان النفس، وإذا لم يصبر جرى القدر وهو مضطرب البال كئيب، ((وَالصَّلاَةِ)) فإن الصلاة توجب توجه الإنسان إلى الله سبحانه، والانصراف عن الدنيا مما يشع في النفس الهدوء والسكينة وعدم الاهتمام بمكاره الدنيا، ((إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ)) باللطف والعناية والرحمة والأجر والثواب، وهكذا يهذب الإنسان والأمة ويرشدهم إلى مهمتهم العظيمة، ويمونهم على الصبر والتحمل، ولذا يخطو القرآن الحكيم خطوة أخرى معهم بعد الصبر والصلاة قائلاً أنكم لابد وأن تتحملوا مشاق القيادة من القتل وسائر أنواع المصائب التي تعترض لمن أراد الإصلاح والإرشاد.
نكمل معكم ان شاء الله
قريباً
تحياتي
مسك النبي الهادي