العدل الإلهي و تفسير السلوك الانساني
(شهد الله أنه لا إله الا هو و الملائكة و أولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم). (آل عمران/18)
العدل صفة من صفات الله سبحانه،نشاهد آثارها في كل مجال من مجالات الوجود،نشاهد العدل في عالم الخلق و التكوين،في عالم الطبيعة و خلق الانسان و الحيوان و النبات،كما نشاهد العدل في الشريعة و القانون الإلهي.
(إن الله يأمر بالعدل و الإحسان) . (النحل/90)
كما يتجسد عدل الله فيما يقضي و يقدر على خلقه من قضاء و قدر،و فيما شرع من شرائع و رسالات،و يتجسد هذا العدل الإلهي في عالم الآخرة،يوم الحساب و الجزاء،فيجازي المحسن بإحسانه و المسيء بإساءته.
(ولا يظلم ربك أحدا) . (الكهف/49)
(ثم توفى كل نفس ما كسبت) . (البقرة/281)
(لها ما كسبت و عليها ما اكتسبت) . (البقرة/286)
و على هذا المنهج سار المسلمون الأوائل في فهم علاقتهم بالله سبحانه و تفسير سلوك الانسان، وما يصدر منه من عمل،و حين دخلت الفلسفة و المذاهب الفلسفية و الكلامية المختلفة،نشأت ثلاثة آراء لتفسير السلوك الانساني،و علاقته بارادة الله سبحانه.
و هذه الآراء هي:
1ـ الجبر.
2ـ التفويض.
3ـ لا جبر ولا تفويض.
فقد أوحت ظواهر بعض الآيات القرآنية لبعض أصحاب الفرق و المذاهب،كقوله تعالى:
(يضل من يشاء و يهدي من يشاء) .
أن يقولوا (بالجبر)، و مفاد هذا الرأي أن الانسان لا يملك إرادة،و لا اختيارا،و إنما هو عبارة عن المحل الذي تجري عليه الحوادث المقدرة من قبل الله تعالى.
فالإنسان وفق هذا الرأي مجبر على فعله،و ليس مختارا،و هو رأي المجبرة ومن اعتنق نظريتهم هذه.
وأما الرأي الثاني فهو الرأي القائل بأن الانسان مفوض في اختيار الأفعال،و ارادته منفصلة عن إرادة الله،بل إن الله لا يستطيع أن يحول بينه و بين فعل ما يريده،سواء المعاصي كالقتل و الظلم و شرب الخمر،أو الطاعات كالعدل و الاحسان و أداء الصلاة،و بهذا فالانسان منفصل عن الله تعالى،و هذا رأي المعتزلة.
و قد رد أئمة أهل البيت (ع) على هذين الرأيين و أبطلوهما،فكلاهما مخالف لما جاء به القرآن،و قامت على أساسه عقيدة التوحيد، وأوضحوا أن هناك علاقة واضحة بين تفسير سلوك الانسان،و بين الايمان بعدل الله،و بينوا أن مفاد الرأي القائل بأن الانسان لا يملك إرادة و لا اختيارا و أنه مجبر على أفعاله،مفاد ذلك يجر إلى اتهام الباري جل شأنه بالظلم و نفي العدل عنهـ تنزه عن ذلك وعلا علوا كبيراـلأن معنى ذلك أن الله أجبر الانسان على فعل الشر وعاقبه عليه،كما أجبره على فعل الخير فهو لا يستحق الثواب عليه،و لذا فقد رفضوا هذا التفسير الذي وقع فيه كثير من المسلمين خطأ بسبب الفهم الناقص لظواهر بعض الآيات، كقوله تعالى:
(يضل من يشاء و يهدي من يشاء) .
وفسر أئمة أهل البيت (ع) معنى الهداية و الإضلال بوضوح كامل و متسق مع عدل الله سبحانه، كما سيأتي بيانه.
كما رفضوا الرأي القائل بأن الانسان مفوض، يعمل دون أن يستطيع الله سبحانهأن يمنعه عن أي فعل، و فسروا رفضهم لهذا الانحراف العقائدي بأنه اتهام لله بعدم الهيمنة و السيطرة على العباد، وعجزه عن ذلك، وهو القادرعلى ما يشاء، والمالك لما ملك الخلق، وحددوا منهجهم و مذهبهم في هذه القضية المرتبطة بعدل الله في النظرية الوسط التي ترفض الجبر و التفويض و تقول: (بإرادة الانسان غير المنفصلة عن إرادة الله) و فسروا هذه العلاقة بدقة عقائدية كاملة،و سنعرض الروايات الواردة عن أئمة أهل البيت (ع) المعبرة عن هذا الرأي.
و قبل أن نستعرض هذه الروايات فلنثبت القضايا الأساسية التي اختلف فيها منهج أهل البيت عن أصحاب المناهج و الآراء المختلفة في قضية العدل الإلهي، وهي ثلاث:
1ـ إن الانسان يملك الارادة و القدرة على اختيار أي فعلـ خيرا كان أو شرا كما يستطيع رفضه، فهو يستطيع أن يقتل ويسرق ويظلم و يكذب بإرادته واختياره، كما يستطيع أن يقيم العدل وأن يفعل المعروف ويؤدي الصلاة ويترك المحرمات بإرادته واختياره.
وإن الله سبحانه قادر على منع الانسان عن أي فعل كما هو قادر على جعل الانسان يفعل أي فعل دون تدخل لاختيار الانسان، ولكن الله سبحانه لايرغم أحدا على فعل الخير أو فعل الشر.
إلا أن الله بلطفه ورحمته له أن يحول بين الانسان المستحق للعناية الإلهية،و بين فعل المنكرات، رحمة بهذا الانسان المستحق، كما قد يوفقه و يعينه على فعل الخير إذا وجده مستحقا لذلك.
2ـ ويرتبط بالعدل الإلهي: أن الله سبحانه يجازي كل انسان على فعله يوم القيامة خيرا كان أو شرا، بينما قال فريق من المسلمين إن الله يستطيع أن يدخل المحسن إلى النار و المسيء إلى الجنة، واعتمدوا خطأ وعن سوء فهم للآية الكريمة:
(لا يسأل عما يفعل و هم يسألون) . (الأنبياء/23)
كما قال فريق من المسلمين اعتمادا على التفسير الخاطئ لهذه الآية، لا يجب على الله أن يفي بما وعد من جزاء يوم القيامة،و رد أئمة أهل البيت (ع) هذا القول بأن ذلك ينافي صدق الله وعدله.
فبهذا الرأي يتساوى المحسن و المسيء، وتنعدم قيمة التكليف و الشرائع،و الصحيح أنه لا عمل بلا جزاء أو مسؤولية وأن:
(فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره
ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره). (الزلزلة/7،8)
3ـذهبت آراء بعض المسلمين إلى القول بأن الله سبحانه يجوز أن يكلف العباد فوق قدرتهم اعتمادا على الفهم الخاطئ و الاستفادة السقيمة من الآية الكريمة:
(ربنا و لا تحملنا ما لا طاقة لنا به)(1). (البقرة/286)
و رفض أئمة أهل البيت (ع) هذا الفهم و التفسير و بينوا أن ذلك مخالف لعدل الله و لصريح القرآن:
(لا يكلف الله نفسا إلا وسعها). (البقرة/286)
و فيما يأتي نستطيع أن نذكر بعض الروايات و المناظرات التي وردت من أهل البيت (ع) تشرح لنا هذه المبادئ الأساسية،و تفسر السلوك الانساني،و العلاقة بين ارادة الانسان و ارادة الله سبحانه،و تربط بين هذا التفسير و مبدأ العدل الإلهي، لتؤكد لنا وحدة الفهم والتفكير والاعتقاد في رسالة الاسلام،و تبطل نظريتي (الجبر والتفويض) كما أبطلوا بقية الأفكار و التخرصات الخارجة على منهج القرآن. روي عن الامام الصادق (ع):
«إن الله خلق الخلق فعلم ما هم صائرون إليه،و أمرهم و نهاهم،فما أمرهم به من شيء فقد جعل لهم السبيل إلى تركه،و لا يكونون آخذين و لا تاركين إلا بإذن الله»(2).
و نقرأ في حوار للامام علي بن أبي طالب (ع) مع رجل من أصحابه عند مسيره إلى الشام لحرب معاوية في صفين حين سأله هذا الرجل فقال:
«يا أمير المؤمنين أخبرنا عن مسيرنا أبقضاء الله و قدره؟
فقال له أمير المؤمنين:أجل يا شيخ، فو الله ما علوتم تلة، ولا هبطتم بطن واد إلا بقضاء من الله وقدر
فقال الشيخ: عند الله احتسب عنائي يا أمير المؤمنين
فقال له الامام: ويحك!لعلك ظننت قضاء لازما و قدرا حاتما!و لو كان ذلك كذلك لبطل الثواب والعقاب، وسقط الوعد و الوعيد، إن الله سبحانه أمر عباده تخييرا، ونهاهم تحذيرا، وكلف يسيرا، ولم يكلف عسيرا، وأعطى على القليل كثيرا،و لم يعص مغلوبا، ولم يطع مكرها، ولم يرسل الأنبياء لعبا، ولم ينزل الكتاب للعباد عبثا، ولا خلق السماوات والأرض وما بينهما باطلا: (ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار)» (3).
(وهديناه النجدين). (البلد/10)
عرفناه نجد الخير و نجد الشر، و عليه أن يختار الطريق.
ويفسر الرسول الكريم محمد (ص) ذلك بقوله:
«إنما هما نجدان نجد خير و نجد شر، فلا يكن نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير» (4).
وخلص منهج أهل البيت (ع) إلى نظرية لتفسير السلوك الانساني، وما يصدر عن الانسان من خير أو شر، وصيغت بقانون نصه:
«لا جبر ولا تفويض، و لكن أمر بين أمرين، ومنزلة بين منزلتين».
و وصف أحد أئمة أهل البيت (ع) ذلك حين سئل أهناك منزلة بين الجبر والتفويض،فقال:
«تسع ما بين السماء والأرض».
هذا هو ملخص المنهج الذي ثبته أهل البيت (ع) في موضوع الجبر والتفويض واعتقده المسلمون الذين أخذوا بمنهجهم وساروا إلى طريقهم.
(1) قال العلامة الطباطبائي في تفسيره للآية: المراد بما لا طاقة لنا به ليس هو التكليف الابتدائي بما لا يطاق،إذ قد عرفت ان العقل لا يجوزه أبدا،و ان كلامه تعالى أعني ما حكاه بقوله: وقالوا سمعنا وأطعنا يدل على خلافه، بل المراد بهـما لا طاقة لنا بهـجزاء السيئات الواصلة إليهم من تكليف شاق لا يتحمل عادة، أو عذاب نازل، أو رجز مصيب كالمسخ ونحوه، الميزان في تفسير القرآن/ج 2/ص .445
(2) البهبودي/صحيح الكافي/ج 1/باب الجبر والقدر.
(3) الامام علي بن أبي طالب (ع) /نهج البلاغة/حكم أمير المؤمنين (ع) /حكمة رقم .78
(4) يراجع الطبرسي/مجمع البيان في تفسير القرآن/تفسير الآية:و هديناه النجدين.
منقول