اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
كيف نتعرض لشعاع العطاء الحسيني؟
ان موسم عزاء الحسين (ع) من المواسم التى من الممكن تحويلها من مجرد مناسبة إحياء ذكرى إمام شهيد ، الى محطة من محطات التكامل والتى يحتاجها كل مؤمن في حركة حياته .. فكما ان قوى الشر في عالم الوجود من : الشيطان ، والنفس الامارة ، وبطانة السوء تسعى لصرف العبد عن طريق الطاعة لرب العالمين ، فكذلك قوى الخير في عالم الوجود ايضا تسعى لدفع العبد الى عالم القرب الالهى والمتمثل بـ : رب الوجود الذى خلق الخلق لكى يُعرف ، وبالفطرة السليمة التى اودعها في طينة الخلق ، والجماعة الصالحة التى عبرعنها في القران الكريم بالفتية الذين امنوا ، والامة الداعية الى الخير ، وخير امة اخرجت للناس .. وبعد هذه المقدمة الموجزة نذكر بعض التوصيات في هذا المجال ، عسى ان يشفع لنا الحسين (ع) عند ربه وهو الشهيد المرزوق، والشفيع المشفع :
1- ان كل حركة عبادية او شعائرية تحتاج الى رصيد فكرى داعم لها أولا ، ومزود لحركتها ثانيا ، وحافظا لها من كل انحراف ثالثا .. وعليه لا بد لتحقيق تلك الاهداف من استيعاب حقيقة الامامة أولا ، وظيفة الامام ثانيا ، وفلسفة النهضة الحسينية ثالثا ، إذ أن باستيعاب هذه المعانى يصل الانسان الى درجة التفاعل الواعى ، والا فان البكاء على مظلوم من دون معرفة انتسابه الى مصدر الوجود ، لا يصب في تغيير مسيرة العبد وسوقه الى عالم الكمال ، فكم من المظلومين قتلوا بغير حق من شتى الملل ، فان من لوازم حب المولى حب أحبائه ، والتألم لما جرى عليهم .. وهذه من لوازم الحب البديهية .
2- انه لا بد من استيعاب فلسفة الحركة الحسينية من بداياتها الى نهاياتها ، والمتمثلة بتحقيق العبودية الشاملة لله رب العالمين .. فان سيد الشهداء كان كما أراد والده على (ع) لهجا بذكر الله تعالى كما كان متيما بحبه ، وهو ما تجلى منذ صغر سنه ، الى سنوات مرافقته لأبيه ، الى حكومة اخيه الحسن (ع) ، الى حركته من المدينة الى كربلاء ، الى ان قضى نحبه في ميدان المعركة .. فكان همّ القرب الالهى هو الغالب على كل حركاته صلوات الله تعالى عليه ، ومن هنا جعل ساعة مقتله ساعة المناجاة مع رب الأرباب ، وحول موضع مقتله الى محراب للعبادة ، حيث لخض فلسفة حياته ومماته بقوله : ( الهى رضى بقضائك ، وتسليما لامرك ، لا معبود لي سواك ) .. فعلى كل من يدعى الولاء الحسينى ، ان ينظر الى هذا الشعار الحسينى ، ويرى مدى مدى مطابقة حركته في الحياة لهذا الشعار المقدس .
3- ان موسم عاشوراء بل محرم ، بل شهرالعزاء ، بمثابة الرياح الموسمية الدافعة للسفينة الى الأمام ، فاذا كانت هنالك سفينة راسية غير مثقوبة الجوانب، وشراع مرفوع غير ممزوقة الأطراف ، فان الرياح الموسمية تدفعها الى الأمام ، ولكن ما بال سفينة فاقدة لما ذكر، فان الرياح قد تضرها أكثر مما قد يفيدها .. فعلى كل فرد منا ان يجهز سفينته قبل المواسم ، لتاتى الرياح ببركاتها المعهودة .
4- ان الالتفات الى فقه الآفات ضرورى جدا لضمان نجاح الوصول الى الاهداف المنشودة في الحياة ، ولا شك ان الحركة العاطفية مما يمكن ان تبتلى بالآفات ايضا ، فمن الافات ترضية النفس بالحركة العاطفية التى لا تستلزم كثيرا من العناء عند الإحساس بالتقصير ، وبالتالى يتقاعس العبد عن الحركة التغييرية العملية ، والتى تحتاج الى شيئ من المعاناة والمجاهدة .. ومنها اقتراب النفس من دائرة العجب ، فان الذى تمر عليه الحالات الروحية المتألقة ، قد يظن انه وصل الى دائرة القرب من الحق المتعال ، ووصل الى نهايات المطاف ، والحال ان المقياس الاول والاخير في هذا المجال هو الرصيد العملى الذى له خلفية عاطفية لا خلفية مجردة من كل رصيد .
5- ان من المشاكل التى يعانى منها كل الذين وفقهم الله تعالى لاحياء ذكر أبى الاحرار (ع) انهم يفقدون معظم المكاسب الروحية بعد انتهاء الموسم مباشرة في اغلب الاحيان ، ولا شك ان هذه خسارة كبرى ، وهي ان يتراجع العبد عما كان عليه ، والحال ان من تساوى يوماه فهو مغبون في فكر اهل البيت (ع) .. والحل الاساسى هو ايصال هذا الماء الرويّ الى جذور النفس ، لا تندية التربة المحيطة بالشجرة ، والحاصل في غالب الاوقات هو الثانى لا الاول .. اما كيف نوصل ماء التوحيد والولاية الى اعماق النفس ، فيحتاج الى حديث مفصل في محله ، ولكن مجمله يتلخص في امرين : ازالة عوائق ايصال المدد في النفس ، من ترك المعاصى والذنوب ، ومن التعرض للنفحات الالهية ، فان الله تعالى يختص برحمته من يشاء ، وهذه المشيئة ليست جزافية أبدا ، فلها قواعدها التى تكتشف من خلال ممارسة الطاعة ، والاستلهام من رب الارباب .
6- ان من السمات البارزة في حركة الحسين (ع) هو حمله لهموم الامة ، والا فلو كان همه الوحيد التقرب الفردى الى الله تعالى ، فان روضة جده المصطفي (ص) كانت له نعم الصومعة ، ليعكف على عبادة فردية الى آخر عمره المبارك ، ومن المعلوم ان السلطة الحاكمة آنذاك لم تكن تتأثر بهذه الحركة بل قد تشجعه عليه ، لتأمن هذه الوجود الذى كان يمثل قمة الامتداد لخط اهل البيت (ع) ولكنه الحسين (ع) الذى لا يرى اثنينة بين العبادة في الخلوات ، والجهاد في الجلوات ، وهو تربية على (ع) حيث يقول عن خاصة أولياء الله تعالى طالبا منه نحقيق هذه الامنية : ( فتاجيته سرا وعمل لك جهرا ) .. وعليه فان من مصاديق التأسي به ، هو ان نحمل هموم الامة في جوانحنا ، بالاضافة الى كل ما يتعلق بالجانب التوحيدى من المحبة الالهية ، ومن الممكن ان يتجلى ذلك من خلال الدور الاجتماعى الفاعل في حركة حياة الامة ، ومن المعلوم ان هذا الدور يختلف من مرحلة الى مرحلة ، ومن فرد الى فرد ، ومن بيئة الى بيئة ، والجامع لذلك كله هو ان يبحث الفرد بموضوعية ونزاهة عما يقربه الى الله تعالى في خلقه ، وهذا معنى السفر الى الحق بالخلق في الخلق ، وهى صورة موازية للسفر الى الخلق بالحق ومع الحق .
7- ان العطاء الحسينى كشعاع الشمس منتشر في عالم الارواح كانتشار نور الشمس في عالم التكوين ، ولكن كما أن الإنتفاع باشعة الشمس يحتاج الى التعرض لها ، فكذلك الامر في عالم الارواح ، فان من يريد الهبات الالهية من خلال عبده الشهيد ، لا بد له من التعرض لتلك النفحات من خلال مجانبة المعاصى واتقان الواجبات ، فان القوم ما وصلوا الى درجات القرب الا من خلال العبودية المستوعبة لكل شؤون الحياة ، ومن هنا وصفنا في التشهد النبي بالعبودية ، قبل وصفه بالرسالة .. واخيرا أوصي اخواني بضرورة مخادعة النفس المتثاقلة في طريق الهدى ، بان ندعوها للالتزام الكامل ولو في موسم قصير، كالايام المعدودات في شهر رمضان المبارك ، والايام المعلومات في اشهر الحج ، وأيام العزاء في محرم الحرام ، ولا شك ان النفس اذا الفت الطاعة وتذوقت حلاوة القرب من المولى ، فانها لا يمكنها الانفكاك عن هذا العالم العلوي ، الذى لا يمكن قياسه الى العالم الارضى ، بالمبتلى بالفناء والتصرم في كل شيئ ، اذ كل شيئ هالك الا وجهه الكريم .
نسأل الله تعالى لنا ولكم ، أن يجعل موسمنا هذا خير موسم مر علينا بمنه وكرمه .
السراج ((محطات للمتأملين))