ولا يجد البعض حاجة إلى بيت الأحزان ، لتبكي الزهراء فيه ، فهو لا يتصورها تبكي على أبيها بحيث تزعج أهل المدينة حتى يطلبوا منها السكوت ؟ لأن ذلك يعني أنها كانت تصرخ بصوت عال في الطرقات ؟ ! وهذا الصراخ والازعاج لا يتناسب مع مكانتها عليها السلام ؟ !
ونقول في الجواب :
أولا : هناك رواية ذكرها المجلسي ، مضعفا لها ، لأنه لم ينقلها - كما قال - عن أصل يعول عليه ، وهي عن فضة ، وفيها : أن فاطمة ( ع ) قد خرجت ليلا في اليوم الثاني لوفاة أبيها ، وبكت ، وبكى معها الناس ، ولما رأى أهل المدينة مدى حزنها طلبوا من علي ( ع ) أن تبكي إما ليلا أو نهارا ، فبنى لها بيت الأحزان في البقيع . وقد تقدمت الإشارة إلى مصادر أخرى لهذه المقولة .
ومن الواضح : أن رواية فضة لا يصح الاعتماد عليها كما ذكره المقدسي رحمه الله . لا من حيث السند ، ولا من حيث المضمون كما يظهر لمن راجعها .
أما بالنسبة لبيت الأحزان ، فهو " باق إلى هذا الزمان ، وهو الموضع المعروف بمسجد فاطمة ، في جهة قبة مشهد الحسن والعباس ، وإليه أشار ابن جبير بقوله : ويلي القبة العباسية بيت فاطمة بنت رسول الله ( ص ) ، ويعرف ببيت الحزن ، يقال : إنه هو الذي آوت إليه ، والتزمت الحزن فيه منذ وفاة أبيها ( ص ) " .
ثانيا : إن بكاءها ( ع ) في الليل أكثر إزعاجا للناس الذين يتفرقون في النهار إلى متابعة أعمالهم في مزارعهم ، والاهتمام بمواشيهم ، وقضاء حوائجهم ، فكان الأولى أن تقيم في بيت الأحزان في الليل دون النهار .
ثالثا : إن الحقيقة هي أن بكاء الزهراء لم يزعج أهل المدينة ، وإنما ازعج الهيئة الحاكمة التي كانت بحاجة إلى أن تتواجد في مسجد الرسول ( ص ) إلى جانب منبره الشريف ، الذي يبتعد أمتارا يسيرة تكاد لا تتجاوز عدد أصابع اليد الواحدة . فكان أن منعها الحكام من ذلك . وكان الناس يتوافدون إلى هذا المسجد بالذات ، ويتواجدون فيه منذ الفجر إلى وقت متأخر من الليل ، من أجل الصلاة ، ومن أجل متابعة ما يجري من أحداث . فالمسجد هو مركز البلد ، الذي كان صغيرا نسبيا ، حيث قد لا يصل عدد سكانه إلى بضعة آلاف ، لأن مكة التي هي أكبر من المدينة بكثير ، وكانت تسمى أم القرى كانت تجند أربعة آلاف مقاتل على الأكثر ، حسبما ظهر في غزوة الأحزاب ، التي جندت فيها مكة كل طاقاتها .
وقد أحصي عدد المسلمين في سنة ست للهجرة ، وهو الوقت الذي لم يعد فيه لغير المسلمين في المدينة أية قواعد بشرية تذكر ، فكان عددهم ألفا وخمس مئة أو ألفا وست مئة .
وقد كان كل أهل المدينة يأتون إلى المسجد للصلاة خلف رسول الله ( ص ) صباحا ، وظهرا ومساء . بل كان الناس يأتون للصلاة من خارج المدينة ، من مسافة أميال مشيا على الإقدام ، وكان المسجد يستوعبهم ، ثم وسعه رسول الله ( ص ) في الفترة الأخيرة . فالمسجد هو مركز هذا البلد الصغير ، الذي كانت شوارعه عبارة عن أزقة ضيقة ، وأبنية متقاربة ، لا سعة ولا انتشار فيها ، لأن ذلك هو ما تقتضيه حالة الأمن للناس ، الذي كانوا بسبب الحروب الداخلية لا يضعون السلاح لا بالليل ولا بالنهار .
وقد أقام سكان المدينة حول شطر كبير من هذا البلد خندقا منع المشركين في حرب الأحزاب من الوصول إليهم ، وقد استغرق حفره ستة أيام رغم سعته وعمقه . وذلك كله يدل على عدم صحة ما ذكره ابن مردويه وهو يتحدث عن زواج فاطمة عليها السلام : أن النبي دعاهم جميعا فأجابوا : " وهو أكثر من أربعة آلاف رجل " ، فإن المدينة لم يكن فيها نصف هذا العدد ويدل على عدم صحة هذا الرقم : أن رواية أخرى قد تحدثت عن نفس هذه القضية . وذكرت أن الذين حضروا كانوا ثلاثة آلاف وثلاث مئة في مجموع ثلاثة أيام .
فالمسجد مركز الحكم ، والقيادة ، والقضاء الخ . . ومنبر الرسول هو موقع الحاكم ، وهو على بعد أمتار يسيرة من مدفن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم .
وفي أجواء وفاة النبي ( ص ) سيتضاعف الذهاب والاياب إلى المسجد ، وحين يأتي الناس إلى المسجد ، فإن أول ما يبدأون به هو زيارة قبر نبيهم ، والسلام عليه وعلى من في البيت ، حيث إنه ( ص ) قد دفن في بيت فاطمة ، وكانت كل الأبواب قد سدت سوى بابها ، وسيسألون الصديقة الطاهرة عن حالها ، وهم يعلمون أنها كانت البنت الوحيدة لأعظم نبي ، وهي ليست امرأة عادية ، بل هي سيدة نساء العالمين من الأولين والآخرين ، يرضى الله لرضاها ويغضب لغضبها ، ولسوف تذكرهم أجواء الحزن ، والانكسار المهيمنة على جو ذلك البيت وعلى الزهراء عليها السلام بما ارتكبه الحكام وأعوانهم في حقها فور دفن أبيها الذي لم يحضر المهاجمون دفنه ، ولم يهتموا بتجهيزه ، وهو الذي أخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الموت إلى الحياة ، فقد قال لهم علي ( ع ) : " كنتم على شر دين وفي شر دار ، تشربون الكدر ، وتأكلون الجشب " ، فهم بدلا من تعزيتها ، والتكريم والتعظيم لها ، واجهوها لا بالكلمة اللاذعة وحسب ، بل بالقول وبالفعل الكاسر والجارح ، إذن ، فلن تكون رؤية الناس للزهراء في كل يوم حزينة منكسرة في صالح الهيئة الحاكمة في أي حال حتى ولو سكتت الزهراء ، ولم تبك ولم تندد بمن ظلمها ، وهتك حرمتها .
إن كل من يأتي إلى المسجد فيراها مكبوتة ومتألمة ، وغير مرتاحة ومنزعجة ، ثم يذهب ليجلس في مجلس الخليفة على بعد أمتار يسيرة منها سيبقى يشعر بأذاها وبمأساتها ، وبما جرى عليها ، وسوف يستيقظ ضميره في نهاية الأمر .
إذن فجلوسها الحزين ومرارتها عليها السلام ستقض مضاجع هؤلاء الحكام ، وسيربكهم ذلك إلى درجة كبيرة وخطيرة وسيندم الكثيرون على ما فرط منهم من تقصير في حقها عليها السلام ، لأن بكاءها ومرارتها وحزنها يوقظ الضمائر ويثير المشاعر ، ويهيج بلابل الناس ، وللناس عواطفهم وأحاسيسهم ، وسيضعف ذلك من سلطة الحكام ونفوذهم ، وهم إنما يحكمون الناس باسم أبيها ، ومن خلال تعاليمه فيما يزعمون . وإذا كان عمر بن سعد قد بكى حين كلمته الحوراء الزينب ، وهو كان قد قتل الحسين ( ع ) قبل لحظات ، فكيف اللواتي لم تكن قلوبهم قاسية كما هو الحال في قلب حرملة والشمر بن ذي الجوشن ( قاتل الحسين ) وابن سعد ، وإن كانت درجات إيمانهم تتفاوت بحسب الفكر والوعي والعمل ، وهم وإن لم يتكلموا حين الحدث المفجع لسبب أو لآخر لكن قد تأتي ساعة الصحوة ، وقد يجدون الفرصة للتعبير عن حقيقة مشاعرهم ، وما يدور في خلدهم ، فكان لا بد من إخراج الزهراء من هذا الموقع وإبعادها عن أعين الناس ، الذين سوف يزداد وعيهم وسيشتد ندمهم بعد أن تهدأ الأمور ، ويعودوا إلى أنفسهم ، ويفكروا بما جرى ، ويتذكروا أقوال الرسول الله ( ص ) لهم في حق الزهراء وعلي عليهما سلام الله . . فلا حاجة إذن إلى صراخها عليها السلام في الشوارع ، ولا إلى إزعاج الناس بذلك .
وليس من البعيد أن يكونوا قد دفعوا بعض الناس لمطالبة الزهراء بالخروج من بيتها متذرعين بأكثر من ذريعة ، ثم استولوا على البيت بعد ذلك بصورة نهائية .
بين الأحزان أضرهم ولم ينفعهم : ولكن هل كان بيت الأحزان هذا في صالح الحكام ؟ !
وهل استطاع أن يحقق بعض ما أرادوا تحقيقه أو ظنوا أنه سيتحقق ؟ !
إن الإجابة الصريحة والواضحة على هذا السؤال ستكون بالنفي ، فإنه كان في الحقيقة وبالا عليهم أكثر مما توقعوه ، فلم يكن من السهل أن يقبل الناس بإخراج الزهراء من بيتها ، ومنعها من إظهار الحزن ، ومن الجهر بالمظلومية ، لأن ذلك ظلم آخر أشد أذى ، وأعظم تأثيرا وخطرا ، وأصرح دلالة على مدى الظلم الذي تعاني منه عليها السلام .
ومما يزيد في وضوح ذلك أن الناس سيرون : أن كل ما جرى عليها إنما كان بمجرد وفاة أبيها ، فبدلا من المواساة ، ومحاولة تخفيف المصاب عليها وهي الوحيدة لأبيها وسيدة نساء العالمين ، تجد نفسها أمام مصاب أمر وأدهى ، وهو أن من يعتبرون أنفسهم من اتباع هذا الدين ، ويعترفون بنبوة أبيها ، ويفترض فيهم أن يعظموه ويوقروه ، ويقدسوه إن هؤلاء قد بلغ بهم الظلم حدا ضيقوا فيه حتى على أقرب الناس إليه وهي ابنته وهي امرأة لها عواطفها ، ومنعوها من إظهار الحزن على أب فقدته حرصا على عدم الجهر بظلمهم لها .
مأساة الزهراء عليها السلام ج 1 - العلامة السيد جعفر مرتضى العاملي