بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا الى هنا
((وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ)) الخائفون من الله سبحانه، وفي هذه الآية الكريمة إلماح الى حال كثير من الناس حيث يتركون المهام ويناقشون في أمر غير مهم عناداً وعصبية.
لنكمل معاً
وحيث ذكر سبحانه ما هو البر عقبه ببعض الأحكام التي ينبغي لأهل البر المؤمنين بالله واليوم الآخر المتصفين بتلك الصفات أن يلتزموا بها ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ)) ومعنى كتابته تشريعه إذ الشرائع والأحكام تُكتب ((فِي الْقَتْلَى)) جمع قتيل، فقد ورد أنها نزلت في حيّين من العرب لأحدهما طول على الآخر، وكانوا يتزوجون نساءاً بغير حلال، وأقسموا لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وجعلوا جراحاتهم على الضِعف من جراح أولئك، حتى جاء الإسلام وأبطل تلك الأحكام، فـ ((الْحُرُّ بِـ)) مقابل ((الْحُرِّ)) يُقتل لا بمقابل العبد ((وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنثَى)) تُقتل ((بِـ)) مقابل ((الأُنثَى)) لا الذكر يُقتل في قبال الأنثى ((فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ)) قبل ((أَخِيهِ شَيْءٌ)) بأن عفى الأخ الولي للمقتول عن قتل القاتل، وبدله بالديّة، أو عفى عن بعض الديّة، وبقي بعضها الآخر ((فَـ)) الواجب على الطرفين، مراقبة الله في الأخذ والإعطاء، غمن طرف الولي للمقتول ((اتِّبَاعٌ)) للقاتل ((بِالْمَعْرُوفِ)) بأن لا يشدّد في طلب الديّة، ومن طرف القاتل ((وَأَدَاء إِلَيْهِ))، أي الى العافي ((بِإِحْسَانٍ)) من غير مطل وتصعيب ((ذَلِكَ)) الحكم في باب القتيل بالمماثلة، أولاً، والتخيير بين القتل والديّة والعفو ثانياً ((تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ)) عليكم ((وَرَحْمَةٌ)) منه بكم، وفي المجع أنه كان لأهل التوراة القصاص أو العفو، ولأهل الإنجيل العفو والديّة ((فَمَنِ اعْتَدَى)) عن الحكم المقرر ((بَعْدَ ذَلِكَ)) الذي قررناه من الأحكام ((فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) مؤلم في الدنيا والآخرة.
((وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ)) في باب القتل، بأن يُقتل القاتل عمداً ((حَيَاةٌ)) للمجموع، لأنّ كل من إفتكر أنه لو قتل قُتل إرتدع إلا النادر، وأيضاً أن القصاص يوجب عدم تعدّي أولياء المقتول على أقرباء القاتل، بأن يقتلوا منهم عدداً كثيراً، كما كان هو المتعارف على زمان الجاهلية، حتى ربما فُنيت القبيلة لأجل قتيل واحد ((يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ)) جمع لُب، بمعنى العقل، أي يأصحاب العقول ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) القتل، أي شرع القصاص، حتى تتقون من القتل.
وحيث ألمح القرآن الحكيم الى حكم القتل، أشار الى ما يرتبط به من الوصية، فقال ((كُتِبَ عَلَيْكُمْ)) كتابة راجحة، فإن الكتابة تشمل الواجب والمندوب، والوصية مندوبة إلا إذا وجبت بالعارض ((إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ)) بأن رأى مقدماته من مرض وهرم ونحوهما ((إِن تَرَكَ خَيْرًا))، أي مالاً فإنه إذا لم يترك الخير، لاداعي للوصية، وإن كانت مستحبة أيضاً، لكنها ليست مثل تأكيد من ترك الخير ((الْوَصِيَّةُ)) نائب فاعل "كتب" ((لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ))، أي الأقرباء ((بِالْمَعْرُوفِ)) بأن يوصي لوالديه وأقربائه، لو كانوا ورّاثاً، شيئاً من الثلث، وهذا يوجب نشر الألفة والمحبة أكثر فأكثر، وإنما قيّده بالمعروف حتى لا يوصي بما يوجب إثارة الشحناء، كأن يترك الأقرب ويوصي للأبعد، أو يفضّل بعضاً على بعض بما يورث البغضاء، والمراد بالمعروف الذي يعرف أهل التميّز أنه لا جور فيه ولا حيف، وهذه الوصية تكون ((حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ)) الذين يؤثرون التقوى.
((فَمَن بَدَّلَهُ))، أي بدّل الإيصاء وغيّره وزوّره ((بَعْدَمَا سَمِعَهُ))، أي علمه، فإن السماع يُستعمل بمعنى العلم ((فَإِنَّمَا إِثْمُهُ))، أي إثم التبديل ((عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ)) وليس إثم على الذي يأكل المال إرثاً، بغير علم، والذي يأكله زيادة عن حصته، من غير علم فإن الغالب أن يبدّل الجيل الأول ويتصرف سائر الأجيال بلا علم منهم بالتبديل ((إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ)) لوصاياكم وأقوالكم ((عَلِيمٌ)) بنواياكم وتبديلكم، أو تنفيذكم للوصية، ولعل هناك نكتة أخرى في قوله "فإنما إثمه على الذين يبدّلونه" هي إن كثيراً من الناس لا يوصون خوفاً من أن يلحقهم إثم التبديل من بعدهم، لأنهم بوصيتهم أعانوا من بدّل ومهّدوا الطريق له، كما رأيت ذلك متعارفاً في كلام كثير من الناس، حيث يقولون من أوصى ألقى ورثته في المعصية، فيكفّ بعضهم عن الوصية، فأشار سبحانه الى كون هذا الحكم غلطاً، فإن الموصي فعل خيراً، وإنما المغيّر هو الذي يتحمل الإثم.
ثم إستثنى سبحانه عن حرمة تبديل الوصة، بأنه إنما يكون حراماً إذا كان تغيّراً من حق الى باطل، أما إذا كان من باطل الى حق فلا إثم في التغيير((فَمَنْ خَافَ)) وخشي ((مِن مُّوصٍ))، أي الذي يوصي ((جَنَفًا))، أي ميلاً عن الحق الى الباطل، بأن أوصى أزيد مما يحق له الإيصاء به ((أَوْ إِثْمًا)) بأن حرم ورثته بإيصائه، وفي الحديث أن الإثم الخطأ عن عمد، والجنف الخطأ لا عن عمد ((فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ))، أي بين الورثة والموصي، والموصي له، بأن ردّ الزائد الى الورثةوأبطل ما فيه من الإثم ((فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ))، أي على المبدّل للوصية ((إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ)) بمن يأثم، فكيف بمن لا يأثم، وقد ثبت في الشريعة أن الوصية - بما زاد عن الثلث - لا تنفّذ إلا برضى الورثة.
ثم إنتقل السياق الى حكم آخر من أحكام الإسلام -لما ذكرنا من أن القرآن الحكيم، بعد بيان أصول التوحيد، ذكر جملة من الأحكام- فقال سبحانه ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ)) فإنه مفروض عليكم، فيجب عليكم أن تصوموا ((كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ)) فلستم أنتم وحدكم أُمرتم بالصيام، بل كان الصوم شريعة في الأديان السابقة أيضاً ((لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)) النار بصيامكم، فإن الصائم حيث يحسّ بالجوع والعطش والضعف يتذكّر الله سبحانه فيخبت قلبه وتضعف فيه قوى الشر، وترقّ نفسه وتصفو روحه، وكل ذلك سبب للتقوى وترك المعاصي.
((أَيَّامًا))، أي أن الصيام في أيام ((مَّعْدُودَاتٍ))، أي محصورات، فليست أياماً كثيرة لا تعد، وإنما هي ثلاثون يوماً فقط، وفيه تسلية، وليس الصيام على كل أحد ((فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا)) مرضاً يضرّه الصوم ((أَوْ عَلَى سَفَرٍ)) فقد شبّه السفر بمركوب لغلبة الركوب فيه، وحدّ السفر معيّن في الشريعة ((فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ))، أي فليصم في أيام أُخَر غير شهر رمضان، قضاءاً لما فاته بالمرض أو السفر ((وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ))، أي يطيقون الصيام، بأن يكون آخر طاقتهم وذلك موجب للعسر- كما لا يخفى - إذا أخّر الطاقة عُسر، أو أنّ الذي يُطيق الصوم كان في أول الشريعة مخيّراً بين الصيام والإطعام، ثم وجب الصوم وحدهوذلك للتدرّج بالأمة ((فِدْيَةٌ))، أي الواجب عليهم الفداء بدل الصوم ((طَعَامُ مِسْكِينٍ)) واحد وهو مدٌّ من الطعام ((فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا)) بأن زاد على طعام المسكين ((فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ)) أيها المُطيقون، الذي يبلغ الصوم طاقتكم ((خَيْرٌ لَّكُمْ)) من الإطعام، فإن الإنسان أما أن يضرّه الصوم ضرراً بالغاً، وهو الذي تقدّم أنه يفطر ويأتي بعدّةٍ من أيام أُخر، وأما أن يشقّ عليه الى حدّ العُسر، وهو الذي يبلغ منتهى طاقته، وهذا يخيّر بين الصيام والإطعام وإن كان الصيام خير، وأما أن لا يشقّ عليه وهو الذي يجب عليه الصيام معيّناً مما بيّن في الآية التالية ((إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) لعلمتم أن الصيام خير لما فيه من الفوائد التي ليست في الإطعام، وليس مفهومه، إن لم تكونوا تعلمون، فليس الصوم خيراً، بل المفهوم إن لم تكونوا تعلمون، لم تعلموا أن الصوم خير.
نكمل معكم ان شاء الله
قريباً
تحياتي
مسك النبي الهادي