بسم الله الرحمن الرحيم
اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وصلنا الى هنا
((إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ)) لعلمتم أن الصيام خير لما فيه من الفوائد التي ليست في الإطعام، وليس مفهومه، إن لم تكونوا تعلمون، فليس الصوم خيراً، بل المفهوم إن لم تكونوا تعلمون، لم تعلموا أن الصوم خير.
لنكمل معاً
الأيام المعدودات المفروض فيها الصيام هي ((شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ)) مما زاد في عظمته وحرمته، إذ صار زماناً لنزول أعظم دستور للبشرية الى الأبد في حال كون القرآن ((هُدًى لِّلنَّاسِ)) يهديهم الى الحق والى صراط مستقيم ((وَبَيِّنَاتٍ))، أي أمور واضحات ((مِّنَ)) جنس ((الْهُدَى)) فليس هدىً غامضاً يحتاج الى إثبات ودليل، بل واضح لائح، ومن الهدى بيان لبيّنات، إذ يمكن أن يكون شيء بيّناً من حيث الشهادة أو المعاملة أو نحوها ((وَ)) من ((الْفُرْقَانِ))، أي يفرّق بين الحق والباطل والضلال والرشاد ((فَمَن شَهِدَ))، أي حضر ولم يغب بالسفر ((مِنكُمُ الشَّهْرَ))، أي شهر رمضان ((فَلْيَصُمْهُ)) إيجاباً، ولما كان الحكم عاماً إستثنى منه بقوله ((وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ)) وإنما كرّر تمهيداً لقوله ((يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ)) ولذا أمركم بالإفطار في السفر والمرض ((وَ)) إنما شرع عدّة من أيام أُخر ((لِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ))، أي عدّة أشهر، فإن في صيامه فوائد لا يدركها إلا من أكملها، فإن لم يتمكن من إكمالها في نفس شهر رمضان أكملها خارجه ((وَ)) إنما شرع الصوم ((لِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ))، أي تعظّموه بسبب هدايته لكم الى دينه وشريعته، فإن الصيام سبب قرب النفس الى الله سبحانه، فيأتي منها التكبير عفواً، وفي التأويل، المراد به تكبير ليلة الفطر ((وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ)) فإن الصوم نعمة تستحق الشكر لما فيه من صلاح الدنيا والدين.
وحيث إن من عادة القرآن الحكيم أن يخلّل الأحكام نفحة موجهة نحو الله تعالى، ليربط الحكم بالخالق، وليشعّ في النفس النشاط والعزيمة، أتت آية إستجابة الدعاء هنا بعد طول من بيان الأحكام، ثم يأتي بعده آيات ترتبط بالأحكام ثانية، بالإضافة الى أن إستجابة الدعاء تناسب شهر رمضان، فإنه شهر دعاء وضراعة، وقد ورد أن سائلاً سأل النبي (صلّى الله عليه وآله وسلّم): كيف ندعوا؟، فنزلت ((وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ)) إليهم، قُرب العلم والإحاطة والسمع والبصر، لا قُرب الزمان والمكان والجهة، فإنه سبحانه منزّه عن كل ذلك ((أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ)) الذي يدعوني ((إِذَا دَعَانِ)) ولعل في هذا القيد إفادة أن الإجابة وقت الدعوة مباشرة فإن "إذا" ظرف، ويفيد تكرار كلمة "دعا" لتتركّز في الذهن تركيزاً ((فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي))، أي يطيعوني في أوامري ونواهي، إذ من يجيب الدعاء يستحق له الإنسان ((وَلْيُؤْمِنُواْ بِي)) إيماناً بذاتي وصفاتي ((لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ))، أي لكي يصيبوا الحق ويهتدوا إليه.
((أُحِلَّ لَكُمْ)) أيها الصائمون ((لَيْلَةَ الصِّيَامِ)) التي تصومون غدها ((الرَّفَثُ))، أي الجماع ((إِلَى نِسَآئِكُمْ)) وإنما عدى بـ "الى" لتعلمنه معنى الإفضاء، أي الإنتهاء الى زوجاتكم بالجماع، وقد رُوي عن الصادق (عليه السلام) في سبب نزول هذه الآية أنه قال: "كان الأكل محرّماً في شهر رمضان بالليل بعد النوم، وكان النكاح حراماً بالليل والنهار في شهر رمضان، وكان رجل من أصحاب رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) يُقال له مطعم بن جبير - أخو عبد الله بن جبير الذي كان رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) وكّله بفم الشِعب يوم أُحد في خمسين من الرماة وفارقه أصحابه وبقي في إثني عشر رجلاً، فقُتل على باب الشِعب- وكان أخوه هذا مطعم بن جبير شيخاً ضعيفاً وكان صائماً فأبطأت عليه أهله بالطعام فنام قبل أن يفطر، فلما إنتبه قال لأهله: قد حُرّم عليّ الأكل في هذه الليلة، فلما أصبح حضر حفر الخندق فأُغمي عليه، فرآه رسول الله (صلّى الله عليه وآله وسلّم) فرقّ له، وكان قوم من الشباب ينكحون بالليل سراً في شهر رمضان، فأنزل الله هذه الآية، فأحلّ النكاح بالليل في شهر رمضان والأكل بعد النوم الى طلوع الفجر."
((هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ)) فكما أن اللباس يقي البدن وكما أنه ملاصق بالبدن ومحرم عليه، كذلك كل من الزوجين بالنسبة الى الآخر ((عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ)) أيها الصائمون ((كُنتُمْ تَخْتانُونَ)) من الخيانة ((أَنفُسَكُمْ))، أي كنتم تخونونها بارتكاب المعصية فكان المرتكب لها يخونها إذ يسبّب لها خساراً، وكل خائن كذلك يسبّب لمن خانه خسارا ((فَتَابَ عَلَيْكُمْ)) ما كنتم تأتون به من المحرم في جماع أهليكم ليلاً ((وَعَفَا عَنكُمْ)) بالنسبة الى هذا الحكم ((فَـ)) من ((الآنَ بَاشِرُوهُنَّ))، أي يجوز لكم جماعهنّ ليلاً والأمر في مقام نفي لا يفيد إلا الجواز ((وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ)) من الأولاد واللذّة المحلّلة الموجبة للثواب، وهذا بالنسبة الى نسخ الحكم بتحريم الجماع ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ))، أي يُباح لكم الأكل والشرب من أول المغرب ((حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ)) بيان الخطين أي يتضح الفجر الصادق الذي هو في وسط الظلام كخيط أبيض قرب خيط أسود ((ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ)) بالكف عن المفطرات المذكورة في الشريعة من أول الفجر الصادق ((إِلَى الَّليْلِ)).
وهو المغرب الشرعي، وهذا بالنسبة الى نسخ الحكم بتحريم الأكل والشرب لمن نام قبل أن يفطر ((وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ))، أي لا تجامعوا النساء ((وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)) ليلاً أو نهاراً والإعتكاف هو اللبث في المسجد بقصد العبادة ويُشترط فيه الصوم، وأقله ثلاثة أيام بتفصيل مذكور في الفقه ومن أحكام الإعتكاف حُرمة مباشرة النساء ليلاً ونهاراً ((تِلْكَ)) التي ذكرنا من أحكام الصيام وغيرها ((حُدُودُ اللّهِ)) التي جعلها لأفعال العباد من الفعل فلا يجوز تركه، والترك فلا يجوز إقتحامه كحدود المدينة والدار ونحوهما ((فَلاَ تَقْرَبُوهَا)) نهي عن الإقتراب، مبالغة في النهي عن الإقتحام والمخالفة كقوله تعالى (ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن) ((كَذَلِكَ))، أي مثل هذا البيان الواضح الذي بيّن أحكام الصيام وغيره ((يُبَيِّنُ اللّهُ آيَاتِهِ)) دلائله وأحكامه ((لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ))، أي لكي يتّقوا معاصيه.
نكمل معكم ان شاء الله
قريباً
تحياتي
مسك النبي الهادي