إن معرفة الإمام موسى بن جعفر (ع) ليس مسألة بسيطة ، فقد شاء الله تعالى أن يكون الحق في هذه الدنيا صعب المنال: جل جناب الحق أن يكون شريعة لكل وارد .
قال علي بن يقطين: استدعى الرشيد رجلاً يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) ويقطعه ويخجله في المجلس ، فانتدب له رجل مُعزِّم ، فلما أحضرت المائدة عمل ناموساً على الخبز ، فكان كلما رام خادم أبي الحسن (ع) تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه ، واستفزَّ هارون الفرح والضحك لذلك ، فلم يلبث أبو الحسن (ع) أن رفع رأسه إلى أسد مصور على بعض الستور ، فقال له: يا أسد الله ، خذ عدو الله !
قال: فوثبت تلك الصورة كأعظم مايكون من السباع ، فافترست ذلك المعزم ، فخر هارون وندماؤه على وجوههم مغشياً عليهم، وطارت عقولهم خوفاً من هول ما رأوه ، فلما أفاقوا من ذلك بعد حين ، قال هارون لأبي الحسن (ع) : أسألك بحقي عليك ، لما سألت الصورة أن ترد الرجل . فقال: إن كانت عصى موسى (ع) ردت ما ابتلعته من حبال القوم وعصيهم ، فإن هذه الصورة ترد ما ابتلعته من هذا الرجل ، فكان ذلك أعمل الأشياء في إفاقة نفسه) .
أراد هارون أن يبطل أمر موسى بن جعفر ، هارون هذا الذي يروون عنه أنه كان يخاطب السحابة ويقول لها: أمطري أينما شئت فإن خراجك يصل اليَّ ! والذي كان العلماء والسحرة تحت يده، فاستدعى رجلاً (يبطل به أمر أبي الحسن موسى بن جعفر (ع) ) !
وأمْرُ الإمام الكاظم (ع) هو قوله وقول شيعته بأنه إمام من الله تعالى .
أراد هارون أن يُبطل أمر الإمام الذي حبسه أربع سنوات أو سبع سنوات في ظُلَم المطامير وقيود الزناجير ، فلم يخضع لطغيانه ، ولم يلفظ فمه الشريف بكلمة استعطاف له !!
فاستدعى أقدر ساحر في طول أمبراطوريته وعرضها ، فعمل له ناموساً ، والناموس في اصطلاح أرباب السحر والعلوم الخفية اسم لنوع متطور من القدرة على السحر.. عمل ناموساً على الخبز ، فكان كلما رام خادم أبي الحسن (ع) تناول رغيفاً من الخبز طار من بين يديه !
وفرح الأمبراطور هارون بذلك ، واستفزه الفرح وأخذه الضحك والقهقهة هو ووزراؤه وندماؤه ، يسخرون من هذا الذي يدعي أنه إمام من الله تعالى ، ويعتقد هو وشيعته أن هاروناً غاصب لمنصبه !
وتصور هارون أنه حقق هدفه ، فالذي يدعون له أنه (حجة الله على العباد) غلبه ساحر موظف عند هارون، فلم يستطع خادمه أن يتناول له رغيف خبز ! لكن فرح هارون لم يطل، فقد استعمل الإمام (ع) بعض ما أعطاه الله من قدرة وهو أعرف متى يستعملها ومتى لايستعملها ، ونظر الى صورة أسد في ستائر قاعة هارون وأمره أن يبتلع الساحر المعزم ففعل ، وغشي على هارون وملإه!!
عندما تقرؤون الرواية عن أهل البيت (ع) .. إفهموها أولاً ، ثم عرفوا الناس بمقامات أهل البيت الطاهرين (ع) .
لابد أن نفهم أولاً السحر الذي استعمله ساحر هارون (المعزِّم) ؟ لكي نفهم عمل الإمام في مقابله .
قال الله تعالى عن سحرة فرعون: (فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ). (لأعراف:116) ففي هذه الآية ثلاث جمل: سحروا عيونهم.. واسترهبوهم.. بسحر عظيم .
حسرةً علينا أنا لم نعرف القرآن ، فلو فهمنا أعماقه لعرفنا أي كتاب هو ؟ ولم نعرف مفسر القرآن ، فلو عرفناهم صلوات الله عليهم لعرفنا أن الحكمة العليا لاتؤخذ إلا منهم .
إن للسحر ثلاث مراتب: الأولى سحر أعين الناس لا أكثر . وهو السحر غير الحقيقي الذي يعتمد على التصرف في أعين الناس .
والمرتبة الثانية: واسترهبوهم .. وهو تصرف في أنفس الناس بالتخويف
والمرتبة الثالثة: السحر الذي توصل اليه كبار علماء الهند ومصر القدماء ، الذي يعتمد على استخراج قدرات النفس البشرية ، هذه القدرات التي تبعث على الذهول ، وقد كان أولئك السحرة الكبار أفراداً قليلين ، لايمكن لكل أحد أن يجدهم ويستخدمهم ، إلا إن كان مثل فرعون وهارون الرشيد .
والشعبة الثانية من هذا النوع من السحر عمل النواميس ، الذي يقوم على المزج والتركيب بين القوى العلوية والمواد السفلية ، ويسمونها الطلسمات ..
فالسحر الذي عمله هذا الساحر في قصر الرشيد ليس من نوع سحر الأعين ، ولا من نوع الإسترهاب ، بل من نوع استخراج قدرات نفس الساحر وجعلها بشكل ناموس أو طلسم يؤثر في المادة ، فيخرج الرغيف الذي تمسه يد الخادم عن قوة الجاذبية الطبيعية وعن قوة إمساك يده ، ويطيره !
(فكان كلما رام خادم أبي الحسن (ع) تناول رغيف من الخبز طار من بين يديه) !!
أراد الله تعالى أن يكون ذلك المجلس واستعراض هارون لقدرته وتحديه لوليه (ع) سبباً لفتح نافذة من معرفة الإمام المعصوم ، والإمام موسى بن جعفر (ع)!
والأمر الذي يحير العلماء والعقلاء أن الإمام الكاظم (ع) استخدم أسلوب النداء مع شئ غير قابل للنداء! فمن شروط المنادى أن تكون فيه قابلية النداء، أن يكون أسداً مثلاً حتى يمكن نداؤه ، بينما لم يكن أسداً ولاجسداً ، بل عرضاً على جوهر ، ولوناً بصورة أسد على ستارة ، وقد صدر نداء الإمام (ع) الى الأسد لا الى صورته..
قبل حرف النداء (يا) لم يكن الأسد موجوداً ، وبحرف نداء فقط (يا) وجد وصار (أسد الله) ، فسمع النداء وتلقى الأمر: ( يا أسد الله خذ عدو الله) !
إن امتياز عمل موسى بن جعفر عن عمل موسى بن عمران أن ذات الحق القدوس عز وجل أمر موسى بإلقاء عصاه فقال له: (وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى). (طـه:69) ، وعندما يقول الحق (ألقِ) ، فمعلومٌ ماذا سيحدث .
والملقى هناك كانت العصا ، وهي جسم ذو أبعاد ثلاثة ، فظهرت بها تلك القدرة وأحدثت ذلك الحدث العظيم ، وكان من تأثيرها كما روي أن فرعون وهامان لم يكن في رأسهما شعرة واحدة بيضاء ، فما أن أخذ موسى عصاه حتى ابيض شعر رأسيهما فلم يبق فيهما شعرة سوداء!
أما القدرة هنا ، فلايمكن قياس صورة الستارة بالعصا ، ولا إلقاء العصا بالنداء والأمر ! فهناك كان القول قول الله تعالى جلت عظمته ، وعندما يكون قوله تكون قدرته ، وقد أجرى منها ما شاء على يد وليه موسى بن عمران !
هذه قدرة موسى بن جعفر بإذن الله تعالى ، ومعنى ذلك أن كلمة(يا) قد انطلقت من لسان تحرك من عقل متصل بدون حاجب بإرادة من يقول للشئ كن فيكون:(إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) (يس:82)
فأي إرادة هذه التي صارت محلاً لأن يجري الله فيها إرادته ؟!
وهذا معنى قول الصادق (ع) (الحكمة طاعة الله ومعرفة الإمام ) !
هؤلاء هم أولياء الحق تعالى! فكلمة أولياء الله عندما يطلقها الإنسان العادي لها معنى ، وعندما يطلقها الله على أناس ويخصهم بأنهم أولياؤه ، لها معنى آخر أعلى وأعمق..
کتاب الحق المبين في معرفة المعصومين ( ع )