وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
لا بدّ من أن نبحث عن العوامل و الأسباب التي تحصّننا في هذه المسیرة من السقوط و تعصمنا من الشّیطان ،و من ضعف أنفسنا ، و وسائل التحصّن و العصمة في حیاة العاملین كثیرة.و أهمّا أربعة یذكرها القرآن:
1ـ الاستعانة بالصّبر و الصّلاة:
یقول تعالی: « و استعینوا بالصّبر و الصّلاة»( البقرة: 45).
و یقول تعالی:« یا ایها الذین آمنوا استعینوا بالصّبر و الصّلاة» (البقرة : 153).
و في سورة هود یشدّ الله علی قلب رسوله (ص) في وسط المعركة الضاریة، التی كان یخوضها مع أئمة الشّرك في الجزیرة، فیقصّ له قصّة مسیرة التوحید الطویلة. ثمّ یقول تعالی لرسوله (ص) بعد استعراض هذه المسیرة الطویلة:« فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنّه بما تعملون بصیر* و لا تركنوا إلی الذین ظلموا فتمسّكم النّار و مالكم من دون الله من أولیاء ثم لا تنصرون *و أقم الصّلاة طرفي النّهار و زلفا مّن الّیل إنّ الحسنات یذهبن السّیّئات ذلك ذكری للذّاكرین * و اصبر فإنّ الله لا یضیع أجر المحسنین» (هود : 112ـ115).
و الصّبر هو الثبات لسنن الله تعالی . و تجری المعارك بموجب سنن الله . و الذي یرید أن یربح المعركة لا بدّ من أن یعرف هذه السّنن و یثبت لها و یقابلها بما یكافئها و یقابلها في سنن الله. و إعداد القوّة المكافئة لقوّة العدوّ في ساحة المعركة، أو في الساحة السیاسیّة ،أو الإعلام... من الصّبر.
إنّ الصّبر لیس بمعنی أن یتحمّل الإنسان العدوّ، بل بمعنی أن یقاوم و یثبت للعدوّ ،و لا ینهار و لا ینسحب من مواجهته ، حتّی یتمكن من ردعه و دفعه بقوّة مكافئة لقوّته ،و هو المعنی الإیجابي للصّبر.
و الصّلاة تمثّل الارتباط بالله و ذكره ،و الإنسان المسلم في وسط المعركة لابدّ من أن یستعین بالله و ذكره ذكراً كثیراً، و یستمدّ القوة و العزم من الله ـ و یشدّ حبله بحبل الله ـ فإذا وصل الإنسان حبله بحبل الله تعالی في ساحة المعركة ، فإنّه لا یخاف و لا یجبن و لا یضعف ،و هذا هو معنی الصّبر و الصّلاة.
2ـ الولاء
المسلمون نسیج واحد ، بعضهم من بعض ، تربط بعضهم ببعض علاقة عضویة متینة هي علاقة الولاء. وهذا الولاء هو الولاء علی الخط الأفقي في مقابل الولاء لله تعالی و رسوله و أولیاء الأمور ،و هو الولاء علی الخط العمودي في نسیج المجتمع الاسلامي. و إلی هذه العلاقة العضویة التي تشدّ الأمّة المسلمة بعضها ببعض،و تكوِّن منها كتلة مترابطة واحدة تشیر الآیة الكریمة :« و المؤمنون و المؤمنات بعضهم أولیاء بعض»( التوبة : 71). و هذا الولاء یتضمّن التحابب و التناصر التضامن و التكافل و التعاون و التسالم و التناصح .
و الأمة التي یرتبط بعضها ببعض بهذه الوشائج القویّة أمّة متماسكة قویّة في ساحة المعركة ، و لأمرٍ ما یجعل الله تعالی أساس العلاقة بین أطراف هذه الأمّة و أعضائها علی أساس الولاء . فإنّ علاقته أمتن علاقة في الأسرة الواحدة.
و لمّا كانت مهمّة هذه الأمّة الأولی هي المواجهة و التحدّي في ساحة الصّراع ، فلا بدّ من أن تتمتّع ببناء داخلي قويّ و نسیج محكم و متین ، لتستطیع أن تقاوم ضراوة المعركة الحاسمة الـتي تدخلها هذه الأمّة. و من دون هذا الولاء المتین الذي یشدّ بعض المسلمین إلی بعض لا تستطیع هذه الأمّة أن تقاوم جبهة الكفر و النفاق في هذه المعركة المصیریة. و هذه الأمّة مجتمعة تعتصم بحبل الله ،و هي كتلة واحدة ،و مجموعة واحدة ،و أسرة واحدة ، في مواجهة أئمة الكفر« و اعتصموا بحبل الله جمیعا و لا تفرّقوا»2.
و في هذه الآیة یأمرهم الله تعالی بالاعتصام أوّلاً بحبل الله في ساحة المعركة ، و أن یكون هذا الاعتصام من قبل الجمیع (جمیعاً) . فإنّ الصراع یتطلّب من كلّ من الطرفین المتصارعین أن یستحضر كلّ قوّته. و قوّة هذه الأمّة في أمرین : في اعتصامها بالله و في اجتماعها و وحدة كلمتها في هذا الاعتصام.
3ـ المیراث
و من الضروري أن یستحضر أعضاء هذه الأسرة ، في ساحة المعركة ، عراقة هذه الأسرة في التاریخ ، و جذورها التاریخیة . فإنّ معرفة هذه العراقة و العمق التاریخي لهذه الأسرة و استحضارها في ساحة المواجهة تمنح الدعاة و العاملین في سبیل الله في ساعة المواجهة قوّة و صلابة و متانة و استحكاماً أكثر. فلیست هذه الحركة الكبیرة في التاریخ حركة مبتورة الجذور، و إنّما هي تضرب في أعماق التاریخ من آدم إلی نوح إلی إبراهیم و إلی رسول الله (ص). و حركة تملك هذا العمق و العراقة ،و تثبت لمؤامرات المشركین و كیدهم و مكرهم طوال عشرات القرون، حَرِیّة بأن تثبت و تثبت جدارتها و كفاءتها في هذه المعركة .إنّ أسرة التوحید شجرة طیّبة علی وجه الأرض أصلها ثابت و فروعها في السّماء.
« ألم تر كیف ضرب الله مثلا كلمة طیبة كشجرة طیّبة أصلها ثابت و فرعها في السّماء *تؤتي أكلها كلُّ حین بإذن ربّها و یضرب الله الأمثال للنّاس لعلّهم یتذكرون»( إبراهیم :24ـ25).
و الشّرك كذلك أسرة إلّا أنّها أسرة مبتورة أجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار. و إنّه لمن الضروري لأعضاء هذه الأسرة الداعیة إلی الله ، أن تستحضر جذورها و عمقها و عراقتها في التاریخ ، و صلتها بالصدّیقین و الصّالحین و الراكعین و الساجدین و الذاكرین الله و الدعاة له.
و لأمر ما نحیّي الحسین (ع) و نسلّم علیه بهذا المیراث الضخم الذي یرثه من آبائه (ع) ، من آدم إلی نوح إلی إبراهیم إلی رسول الله (ص) فنقول:« السلام علیكم یا وارث آدم صفوة الله ، السلام علیك یا وارث نوح نبيٍّ الله ، السّلام علیك یا وارث ابراهیم خلیل الله.
إنّه لمن الضروري ، في ساحة المعركة ، أن یستحضر الإنسان هذا العمق و هذه العراقة، فإنّها تعصمه و تحصّنه و تدعمه في وسط هذه المعركة الضاریة.
4ـ الانتظار و الأمل
و الانتظار رابع العوامل التي تمدّ الإنسان بالحركة ، فإنّه الانتظار یبعث الأمل في نفسه ، و الأمل یمنحه القدرة علی المقاومة و الحركة. إنّ الغریق الذي ینتظر وصول فریق الإنقاذ ، یقاوم أضعاف ما یقاوم الغریق الذي یفقد الأمل من الإنقاإ.
إنّ الإیمان بـ« وراثة الصّالحین» للأرض و « إمامة المستضعفین المؤمنین» و أنّ « العاقبة للمتّقین» یمنح الصّالحین و المتّقین ثقة و قوّة، و یثبّت أفدامهم علی أرض المعركة ، و یمنحهم قدرة علی مواجهة الصعاب و تحدّي الجبابرة و المستكبرین في أشقّ الظروف و أقساها و یحول بینهم و بین الانهیار و الهزیمة النفسیة في ظروف المحنة الصعبة.
و لأمرٍ ما یؤكد القرآن الكریم علی حقیقة « و العاقبة للمتّقین» (الأعراف: 128).و یقرّر وراثة الصّالحین للأرض و یؤكدها كما قرّرها الله تعالی من قبل في « الزبور».
« و لقد كتبنا في الزّبور من بعد الذّكر أنّ الأرض یرثها عبادي الصّالحون» القصص: 5.
و لأهمیة هذه الحقیقة، و ضرورة تأكیدها و تعمیقها في نفوس المؤمنین ،و بناء العقلیة الإسلامیة علیها، یقرّرها الله تعالی في « الذكر » و « الزبور» معاً. و یقرّر الله تعالی إمامة المستضعفین في الأرض و قیمومتهم علی مسیرة الحضارة الإنسانیة ....و هذا إقرار من الله تعالی و إرادة حتمیة منه سبحانه ، إذا استحباب المستضعفون لما یأمرهم به و یدعوهم إلیه ، من الإیمان و العمل الصالح.
یقول تعالی: « و نرید أن نمنّ علی الذین استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثین* و نمكن لهم في الأرض»(القصص : 5ـ6).
و هاتان الآیتان ،و إن كانتا واردتین ، في قصة أمر موسی (ع) و فرعون و هامان، فإنّ الإرادة الإلهیة لإمامة المستضعفین المحرومین مطلقةو غیر مقیّدة بشيءٍ إلّا الاستجابة لما یدعو الله تعالی إلیه المؤمنین من الإیمان و العمل الصالح ،و هذا الوعد الإلهي بإمامة المستضعفین في الأرض یمنح المؤمنین المستضعفین قوّة و ثقة و طمأنینة ،و مقاومة و صبراً علی تحمّل متاعب الساحة و الصراع ،و ثباتاً علی الأذی ، و یثبّت أقدامهم علی أرض المعركة شأنه في ذلك شأن أي انتظار حقیقي للإنقاذ، یبعث الأمل في نفوس المقاتلین في ساحات القتال. وفي وسط المعركة ، في مواجهة فوعون و هامان یثبّت رسول الله موسی بن عمران (ع) قومه من بني إسرائیل في ساحة المواجهة و المعركة ، بوعد الله و انتظار الفرج، و انتظار المدد من الله تعالی.
تأمّلوا في هذه الآیات المباركات من سورة الأعراف:
« قال موسی لقومه استعینوا بالله و اصبروا إنّ الأرض لله یورثها من یشاء من عباده و العاقبة للمتّقین * قالوا أوذینا من قبل أن تأتینا و من بعد ما جئتنا قال عسی ربّكم أن یهلك عدوّكم و یستخلفكم في الأرض فینظر كیف تعملون» (الأعراف: 128ـ129). فیحاول نبيّ الله موسی بن عمران (ع) أن یشعر بني إسرائیل في ساحة المعركة ،و في ساعة المواجهة بالأمل بالله تعالی ، و وعد الله ،و انتظار الفرج . و یقرّر لهم هذا القرار الإلهي العظیم : « قال موسی لقومه استعینوا بالله و اصبروا إنّ الأرض لله یورثها من یشاء من عباده و العاقبة للمتّقین».
و من عجب أن ربط موسی بن عمران (ع) بین « الصّبر» و « الانتظار » لوعد الله « اصبروا إنّ الأرض لله یورثها من یشاء من عباده » و یحاول بنو إسرائیل أن یعیدوا نبیّهم (ع) من انتظار المستقبل إلی مرارة الحاضر، فیقولون له : « أوذینا من قبل أن تأتینا و من بعد ما جئتنا» فیعود موسی بن عمران (ع) إلیهم مرّة ثانیة لیعیدهم بالنّبرة نفسها المطمئنة إلی انتظار وعد الله و الصّبر علی الأذی حتّی یأذن الله بالفرج، و هو قریب :« قال عسی ربّكم أن یهلك عدوّكم و یستخلفكم في الأرض فینظر كیف تعملون».
إذن فإنّ الله تعالی یرید لهذه الأمّة أن یثقّفها علی « الوراثة» و « الانتظار» ،وراثة الأنبیاء و الصّالحین و انتظار وعد الله تعالی بالفرج و إمامة الصّالحین . و حركة التوحید یحفّها من جانب قانون « الوراثة » و من جانب آخر قانون « الانتظار» . و الوراثة و الانتظار هما أهمّ أعمدة حركة التوحید في مسیرها الطویل الشاق . و علینا أن نثقّف أنفسنا بهذه الثقافة القرآنیة المزدوجة « الوراثة» و « الانتظار».
....