وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
لقد خلا مكانه لا أحد هناك ليملأ المكان، كما لو أن اللبنانيين، والعرب، والمسلمين بحاجة الى ذاك الفراغ الآخر، هو الذي كان يحذر دوما من فراغ الروح. في رحيل السيد (السيّد)، لبنانيون كثيرون، عرب كثيرون، مسلمون كثيرون، شعروا، أو استشعرو ان من كان صمام الأمان لم يعد بينهم.
أي رجل هو العلامة محمد حسين فضل الله؟ حين كنا نجالسه كان يستعيد ذكريات النجف.. تذهب عيناه بعيدا، ظل وفيا للمدينة المقدسة، وحين أصابها ما أصابها، ثمة من طرح اسمه ليكون المرجع الأعلى. بيروت هي مدينة العرب ومدينة المسلمين، بدا وكأن زلزالا قد حدث.
خرجت كل الأشباح من كل الجدران، واعترضت، لكنها لم تفلح قط في وضعه في الاقامة الجبرية، من يستطيع ان يدفع بذلك العقل الفذ الى ما وراء القضبان؟
معاناة..
سماحة صاحب السماحة. الدخول الى النص لا بالاظافر، ولا على طريقة طواحين الهواء (وهم طواحين اللغة)، وانما بالشفافية اللامتناهية، والذين يدركون معاناته هم القلة. ثمة مرض آخر غير ذاك الذي ظل يستنزف جسده، وهو يبتسم ويمازح، حتى الرمق الاخير.
إنفجار اقتلع حياً بكامله
كان يسمع هذا. يمتقع وجهه قليلا ثم يبتسم ويتضرع الى الله ان يضيئ عيونهم، دون ان يأبه باي خطر، فالبداية كما النهاية في يد الخالق، وهو الذي تعرض لاكثر من محاولة اغتيال، من تراه يستعيد مشهد ذلك الانفجار الهائل في منطقة بئر العبد، حيث كان يقطن. الانفجار اقتلع حيا بكامله.
روبرت فيسك ذهب الى هناك، التقيته وكتب «كما لو انها اللحظة التي انتهى فيها العالم».
بكى السيد
بكى السيد حين خرج ليرى ماذا فعل الفاعلون. كأننا امام لوحة الغرنيكا وليست بريشة سلفادور دالي، وانما بريشة يوشع بن نون.
«الفتنة السنية - الشيعية حرام ثم حرام ثم حرام»، لم يكن يتصور ابدا وجود فارق جوهري بين السنة والشيعة، بل كان يعود بالسيناريو الى ايام زمان. لا كلمة تخرج من فمه الا متزنة، عاقلة، بعيدة المدى.
الكلمة التي للعقل لا للغريزة، وعلى هذا الاساس كان يجادل حتى الذين يولدون ويترعرعون مثلما تولد وتترعرع الحجارة. وكان مقتنعا بان ما يمر به المسلمون الآن لابد ان ينتهي، رهانه كان على التفتح، وعلى ان احدا لا يمكنه، بيدين ملطختين، ان يحطم الزمن.
لكن السيد، وفي هنيهات قليلة كان كمن يشعر باليأس. يتصفح بعض ما يكتب، يرصد ما يقوله «دعاة» على الشاشات. ثم يبتهل الى الله، بل انه كان يناجي الله بذلك الصوت المتهدج الذي كان يبدو وكأنه يختزل أو يختزن كل آلام الدنيا، لكي ينقذ المسلمين من يوم لا يوم بعده.
تعذيب النصوص
المرجع الديني كان ضد «الذين يحاولون تحويلنا الى حطام ايديولوجي»، وضد «الذين يتقنون تعذيب النصوص»، وحتى ضد «وثنية الجسد» الذي هو وعاء الروح. أجل، ضد مفهوم «الزنزانة المقدسة» الذي يعمل البعض على تسويقه. من قال ان الحياة وجدت لتغتال الحياة؟
قلنا له «يا سماحة السيد في هذه الأيام ألا تشعر بأن من يفكر مثلك إنما يمشي على خطى سيزيف؟»، ضحك: «أنا لا أحمل صخرة، بل أحمل رؤية، والرؤية لا تتدحرج، انها تدخل الى قلوب الناس».
وكان على تواصل شبه يومي مع مرجعيات سنية في جميع ديار المسلمين. ابدا لم يكن للشيعي، كان للمسلم وكان للإنسان. وكان يتندر بين الحين والآخر بقصة من جاء الى العلامة الراحل محسن الأمين كي يتحول من سني الى شيعي، قال له الأمين: «قل: لا إله إلا الله محمد رسول الله»!
الصدر الذي يتلقى الضربات بود منقطع النظير. أجل كانت تنزل عليه بردا وسلاما، فهو في موقعه لا بد ان يواجه المشقات، والا ما معنى الموقع وما معنى المهمة؟ ضحك طويلا حيث قلت له «سوف أكتب.. عقل وراء القضبان». وبتواضع جم، كان يشير الى قلبه الذي تجد فيه كل الناس.
الإسلام عقل
المثقف الذي يحترم ثقافات الآخرين، لا ضغينة حيال أحد الا حيال «أصحاب السكاكين الطويلة في إسرائيل». وكان يعرف ان المنطقة على خط الزلازل. بعصبية كان يسأل عن «جدوى التواطؤ مع الهباء» حينما يتحدث عن الحالة العربية التي كان يأمل ان تخرج من الغيبوبة، لكن الجسد اياه ما لبث ان دخل في غيبوبة. غداً نسأل: «ما هي وصيته؟». نستنتج: «أيها الناس الإسلام.. عقل»!
لعب العلامة الراحل فضل الله دورا بارزا قبل سنوات طويلة من نشوء حزب الله كقوة عسكرية ثم سياسية. وكان من اشد المؤمنين بالمقاومة والجهاد في مواجهة اسرائيل. وبقي كذلك حتى اللحظة الاخيرة من حياته. وكان من انصار تأسيس الجمهورية الاسلامية على يد الامام الخميني الراحل.
وبعد اعلان نباء وفاته ، لفت «حزب الله» في بيان له الى أن لبنان والأمة الإسلامية والعالم بأسره فقد العلامة المجاهد آية الله سماحة السيد محمد حسين فضل الله.. العالمَ الإسلامي الكبير الذي ملأ الساحة بعلمه وجهاده ومواقفه وتربيته ومؤلفاته، وهو الذي وقف بكل جرأة ووضوح نصيراً للمقاومة ضد العدو الصهيوني وللمجاهدين الأبطال، حيث تشهد الساحة تحديه وتصديه للاحتلال وأفعاله الإجرامية، والأثمان التي دفعها نتيجة لمواقفه، وعبَّر عن رفضه لمؤامرات الاستكبار. لقد كان من أبرز الداعين والملحّ.ين إلى الوحدة الإسلامية محارباً التفرقة والفتنة، وعاش مع الناس في شؤونهم وشجونهم وتوجيهاتهم.
كما اعتبر رئيس المجلس النيابي اللبناني نبيه بري، خلال برقية تعزية، أنه بفقدان السيد فضل الله تفتقد الامة داعية من طلائع الدعاة الى الوحدة الاسلامية، وصوتاً مدويا من أجل نصرة قضايا الحق والعدالة ومقاومة الظلم والعدوان، وداعماً من أبرز دعائم قيام لبنان انموذجاً للتعايش بين الحضارات والاديان وظهيرا للمقاومة ظل حتى الرمق الاخير.
بدوره، نعى رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري العلامة الراحل، معتبراً أنه بغياب السيد فضل الله يخسر لبنان مرجعية وطنية وروحية كبرى، أسهمت إسهاماً فعالاً في ترسيخ قيم الحق والعدل لمقاومة الظلم وأضافت الى الفكر الإسلامي صفحات مميزة ستتوارثها الأجيال جيلاً بعد جيل».
بدوره أكد الأمين العام لـ«حزب الله» السيد حسن نصرالله، في بيان أننا «فقدنا اليوم أباً رحيماً ومرشداً حكيماً وكهفاً حصيناً وسنداً قوياً في كل المراحل، وهكذا كان لنا سماحته ولكل هذا الجيل المؤمن والمجاهد والمقاوم منذ أن كنا فتيةً نصلي في جماعته ونتعلم تحت منبره ونهتدي بكلماته ونتمثل أخلاقه ونقتدي بسيرته».
وأضاف نصرالله: «علّمنا في مدرسته أن نكون دعاة بالحكمة والموعظة الحسنة وأن نكون أهل الحوار مع الآخر وأن نكون الرافضين للظلم والمقاومين للإحتلال وعشاق لقاءٍ مع الله تعالى من موقع اليقين، وأن نكون أهل الصبر والثبات والعزم مهما أحاطت بنا الشدائد والمصاعب والفتن، فكان لنا الأستاذ والمعلم والعلم والنور الذي نستضيء به في كل محنة».
من جهته، اعتبر رئيس تكتل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون أن «العلامة فضل الله كانت له مساهمات كبيرة جدا في الوحدة الوطنية»، وأن «ذهابه اليوم هو خسارة كبيرة للبنان»، داعياً إلى «أن نكمل بهذا النهج لأن وصيته لنا هي أن نعمل كما هو عمل على جمع الناس»، مذكراً في هذا الإطار بأن المحبة التي كان يبشر بها هي بالمركز الأول من الفضائل المسيحية.
وفي حديث إلى الـOTV، علق عون على خبر وفاة فضل الله، مشدداً على أنه «سيكون من الخالدين لأنه متقدم ويواكب العصر ومن الصعب اختصار موقعه بكلمات». ورأى أن «أحاديثه وتعليقاته بمختلف المراحل يمكنها أن تكون موعظة محبة تقرأ في أي مكان مقدس لأنها رسالة سماوية في ما يتعلق بنشر المحبة بين الناس».
بدوره، نعى وزير الخارجية والمغتربين الاسبق في لبنان فوزي صلوخ العلامة المرجع السيد محمد حسين فضل الله، معتبرا ان «السيد فضل الله شخصية عرفانية فذة اكتنزت نهرا متدفقا من غزارة العلم والفقه والفلسفة حتى تمكن من طرق باب الاجتهاد بجرأة وصواب رأي.
كان (قدس سره) صاغي القلب للدين وصافي النفس للاجتهاد، يضاف الى ذلك شغفه الانساني بالعمل المؤسساتي فانشأ المؤسسات الناجحة من تربوية وصحية واجتماعية في خدمة اليتيم والانسان المقهور». وختم الوزير صلوخ بالقول «ان في اختيار مثل هذه اللآلئ لمجاورة الرفيق الاعلى خلودا وحياة ابدية».