بسم الله الرحمن الرحيم
إن معرفة شخصية الإمام المعصوم عليه السلام وما خصه به الله تعالى ، لا تتيسر إلا لمن وصل الى مقام العصمة ، فهو الحكيم الذي يعرف ما الخبر ، من وصل الى مقام العصمة وعاشه ، هو الذي يعرف المعصوم ويعرفنا عليه !
لابد لنا للحصول على جواب سؤالنا أن نعرف الإمامة أولاً ما هي؟ ثم نعرف الإمام بشكل عام من هو ؟ ثم ننتقل الى معرفة صاحب الزمان عليه السلام من هو ؟(تقدم حديث الإمام الرضا عليه السلام في وصف الإمامة في الموضوع رقم:29)
لقد عرَّف الإمام الرضا عليه السلام الإمامة أولاً، ثم عرف الإمام وبين صفاته ، وتضمن كلامه في الإمامة ثمانية وعشرين مبحثاً ! نتعرض لكلمة واحدة منها في بيان درجة الإمامة ورتبتها في قوس الصعود وسلسلة الموجودات.
((إن الإمامة أجل قدراً، وأعظم شأناً، وأعلا مكاناً ، وأمنع جانباً ، وأبعد غوراً ، من أن يبلغها الناس بعقولهم ، أو ينالوها بآرائهم ، أو يقيموا إماماً باختيارهم)) !
والتعبير الثاني: عن عظمتها ، ومتعلق العظمة الشأن.
والتعبير الثالث: عن علوها ، ومتعلق العلو المكان.
والتعبير الرابع : عن منعتها ، ومتعلق المنعة عزة الجانب.
والتعبير الخامس: عن بعد غورها ، ومتعلق الغور العمق !
وفي هذه الأوصاف يتجلى علم الإمام الرضا عليه السلام وإنما يعرف الإمام بالعلم ! إن كل كلمة من كلماته عليه السلام عالمٌ مواجٌ من العلم! تحتاج الى بذل جهود عقلية لكي تفهم ، ويعرف منها الموضوع والمحمول والمتعلق والمتعلق به ، وبذلك تفهم الإمامة ما هي؟ وهيهات أن تفهم حق فهمها !
((أعظم شأناً.. وأبعد غوراً، من أن يبلغها الناس بعقولهم ))
تأملوا فقط في كلمة ((أبعد غوراً)) لتروا أن الموضوع هنا مثل مناطق الفراغ أو الثقوب السوداء ، التي يتكلم عنها الفلكيون ، والتي كلما وصل اليها شعاع انطفأ، أو نجم تلاشى وفني! إنها محيطٌ بلا نهاية يقف الفكر البشري في ابتدائها ولا يعرف غورها وانتهاءها !
فالإمام الرضا عليه السلام يقول إن شخصية الإمام جهاز رباني ، عميق الغور ، أعظم من أن يبلغها الناس بعقولهم !!فكل العقول عندما تصل الى هنا تنطفئ أشعتها ، وتتلاشى قدراتها !هذه هي الكلمة الأولى،والثانية: أو يقيموا إماماً باختيارهم أو ينالوها بآرائهم!
علَّل الإمام الرضا عليه السلام عجز الناس عن إدراك الإمامة واختيار الإمام ، بقوله ((إن الإمامة)) وهذه هي العلة ،
((إن الإمامة خص الله عز وجل بها إبراهيم الخليل عليه السلام بعد النبوة والخلة مرتبةً ثالثة ، وفضيلةً شرفه بها ، وأشاد بها ذكره ، فقال .....
ثم أكرمه الله تعالى بأن جعلها في ذريته أهل الصفوة والطهارة فقال...
فلم تزل في ذريته يرثها بعض عن بعض قرناً فقرناً حتى ورثها الله تعالى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال جل وتعالى....
فكانت له خاصة فقلدها صلى الله عليه وآله وسلم علياً عليه السلام بأمر الله تعالى على رسم مافرض الله، فصارت
في ذريته الأصفياء الذين آتاهم الله العلم والإيمان ، بقوله . . .
فهي في ولد علي عليه السلام خاصة إلى يوم القيامة ، إذ لا نبيَّ بعد محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فمن أين يختار هؤلاء الجهال؟! )) .
فالإمامة إذن مقام خص الله به إبراهيم عليه السلام ، ولا بد من فهم الذي خص ، والمخصوص، والمخصوص به! فالذي خص بالإمامة هو الله سبحانه، باسمه الجامع لجميع صفات الكمال .
والمخصوص بها إبراهيم عليه السلام ، وقد استحق هذا العطاء العظيم بعد أن وصل الى ((مقام النبوة)) ، ثم الى ((مقام الخلة)) ومقام النبوة هنا هو مقام النبوة الإبراهيمية الذي يبدأ بقوله تعالى :
(سورةالأنعام:75)
فبعد أن رأى إبراهيم باطن الملك والملكوت صار((نبياً))
ثم عَبَرَ درجة الملك والملكوت فوصل الى الدرجة الثانية ، درجة ((الخلة)):
ثم امتحنه الله تعالى بما يمتحن خاصة أنبيائه ، فبلغ مرحلة ((الإمامة))
<< وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً . قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي؟ قَالَ لا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ>>
( سورة البقرة: 124 )
وبهذا يتضح أن قول الإمام الرضا عليه السلام في عجز الناس عن درك مقام الإمامة واختيار الإمام ، كلام واضح كالشمس:
ونلاحظ هنا أن الإمام عليه السلام لم يستعمل كلمة ((شرَّفه بها)) في النبوة الإبراهيمية والخلة لأنهما صفتان تختصان بإبراهيم من لدن آدم الى عيسى عليهم السلام .حتى إذا وصل الى الإمامة قال:
إن الإمامة كلمة مقدسة ، تحمل معنىً عظيماً ، وليست كلمة تلقلق باللسان . إن مشكلة الإنسان كثيراً ما تكون قلة فهمه ، فيطلق منطقه وسلوكه بلا دقة، فتكثر سقطاته، ويجر المشكلات والمصائب على نفسه وغيره!
والإمامة هي المبدأ، فما هو المشتق المتلبس بالمبدأ ؟ ما هو الإمام ؟ والبحوث كثيرة، ووقتنا يتسع لقراءة بعض صفاته من كلام الإمام الرضا عليه السلام
((مخصوص بالفضل كله..)) والفضل أنواع عديدة، فالعلم فضل ، والعفة فضل ، والغيرة فضل..الخ. وكل واحدة من هذه الفضائل درجاتٌ ومراتب ، فالشجاعة درجات ، والغيرة مراتب ، والعفة مستويات ، والإمام مخصوص بالفضل كله ، بأنواع الفضائل وأعلى مراتبها ! فالإطلاق هنا شمولي وقد جاء به الإمام عليه السلام بعد لفظ العموم فشمل به الأعداد والمراتب!
والمهم أن هذا المقام وفضائله الربانية ليست كفضائل الطلب والإكتساب ، بل هي: اختصاص من المفضل الوهاب ! فمن ذا الذي يبلغ معرفة الإمام ، أو يمكنه اختياره؟! هذا هو الإمام عليه السلام !
أما إمام الزمان أرواحنا فداه ، فقد ورد له في مجموع الروايات والزيارات والأدعية الصحيحة ، مئة واثنان وثمانون مقاماً وصفة ! إحدى صفاته عليه السلام : ((متمُّ نور الله)) وهي صفة يتحير فيها العقل!
ففي القرآن آيتان مقترنتان ، نزلتا مرتين ، بتغيير في صيغة أولاهما دون الثانية نزلتا أولاً في سورة الصف ، ثم نزلتا في سورة التوبة
{{ يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُور َاللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ.}}( سورة الصف:8-9 )
{{ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُور َاللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ . هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ . }}
(سورة التوبة:32- 33 وسيأتي تفسيرها بالإمام المهدي عليه السلام في الموضوع رقم: 33)
فالدين الذي أرسل الله به رسوله صلى الله عليه وآله وسلم أكمله بإمامة أمير المؤمنين عليه السلام ، أي بالضمان الرباني لاستمرار علم النبوة وتطبيق وحيها!
وقد علم الله تعالى وأخبر رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بأن الأمة سوف تغدر بالإمام بعده فقد قال النبي لعلي:
(صحيح) (مستدرك الحاكم:3/142)
((متمُّ نور الله تعالى))
لقد اكتمل الدين على يد جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بإمامة جده أمير المؤمنين عليه السلام لكن هذا الإكتمال لم يتحقق به الهدف الذي هو إتمام النور الإلهي، فجعله الله على يد إمامنا المهدي عليه السلام وخصه الله بأنه: متم نوره في الأرض!
إن عمله ودوره عليه السلام هو غاية الغايات ومنتهى النهايات لبعثة نبينا صلى الله عليه وآله وسلم وكل الأنبياء عليهم السلام ، فهو الجزء الأخير للعلة التامة، وبه يظهر الله دينه على الدين كله، وهو مقام اختصه الله به من بين الأنبياء والأوصياء صلوات الله عليه وعليهم ، ولا نبي بعد نبينا ، ولا أحد أفضل منه صلى الله عليه وآله وسلم
____________________________
کتاب الحق المبين في معرفة المعصومين ( ع )
لسماحة الشيخ علي الكوراني العاملي