الاخوة والاخوات الكرام
قال تعالى: { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّيۤ إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } سورة يونس (53)
هناك في الأفق البعيد النائي نجم لامع وضّاء, سيرّ ناظره ويعجب تأمله قد يبدو أحياناً لبعض الناظرين الذي اتبعوا أنفسهم في محاولة رؤيته, ولكن غالباً ما تحجبه سحب كثيفة متراكمة بيضاء أحياناً وسوداء في أكثر الأحيان فيحرم الناظرون من ضوئه اللامع البراق ويضلون يتخبطون في الظلام بأمل رؤيته حيناً بعد حين, ذلك الجسم اللامع البراق هو شي اسمه (الحقيقة).
هذه الحقيقة هي التي سعى نحوها الساعون وادعاها لأنفسهم المدعون وأفتخر بالوصول اليها المفكرون, هذه الحقيقة التي يبتعد عنها الإنسان إذا ركب في الطريق إليها مطية الهوى والعواطف ويقترب منها رويدا اذا حكم العقل والبرهان الصحيح.
وإذا استثينا مذاهب التشكيك بوجود حقيقة موضوعية, تلك المذاهب التي تقوم على عوامل سكتولوجية ومؤثرات نفسية أكثر مما تقوم على النطق والبرهان, فإننا نستطيع ان نعرف الحقيقة الموضوعية عن طريق وجداننا وإحساسنا الذي لا ريب فيه ونعلم ان هناك في العالم الخارجي أموراً حقيقية ثابتة وقوانين واسعة دقيقة منها ما اتضحت لنا تفاصيله على مر الزمن ومنها الذي ما زال في طي الكتمان.
فاننا لو طرق الشك الى اذهاننا بهذه الحقيقة الثابتة لاستطعنا طرده بسرعة وسهولة بواسطة القول بان العلم الوجداني خاصة ذاتية في الكشف عن الأشياء التي تعلق بها أي اننا نعرف بواسطة نفس العالم المنطبع في نفوسنا انه انما يدل شيء خارجي ويكشفه للنفس, وان نفس وجود العلم يدل على انه لا بد ان يكون متعلقاً بشي من الخارج وليس وهما منتحلا ابتداء.
ونحن اذا شئنا ان نتجرد من هذه القاعدة الاساسية لمعلوماتنا فلا بد لنا ان نكذب جميع علومنا العقلية وإدراكاتنا الفكرية التي
نحيط بها وتحيط بنا ولن يبقى لدى الذهن إلا العلم البسيط بالنفس الخاصة به ولا شيء غير ذلك.
اما العلوم الدقيقة التي درسناها وبحثنا في موضعاتها واما المكان الذي نجلس عليه والزمان الذي نعمل فيه أما الأشخاص الآخرون الذين نخاطبهم ونتعامل معهم فأنهم سوف يدخلون تحت حيز هذه الأفكار, لأننا انما نعرف هذا كله عن طريق العلم الذي ينير لنا الطريق ويهدينا الى الواقع. وبهذا يبقى المشكل وحده في القضاء اللانهائي بدون انيس ولا جليس ان كان يعرف بوجود مثل هذا القضاء.
ثم اننا ننظر الى الحقيقة مرة اخرى ونفحصها متأملين فنجدها حقيقة واحدة بسيطة لا تعدد فيها ولا تركيب لان الأشياء الخارجية الموضوعية سائرة على نمط مميز وأسلوب خاص ل تتحمل مه نمطا أو أسلوبا أو وجودا آخر سواء أفي محتويات هذا الكون أم في قوانينه العامة أم في التشريعات التي أن تسود البشر ويعلى علينا ذلك العقل والفطرة السليمة بسورة صحيحة وواضحة فلعالم التجريبي انما يسعى بتجاربه الى ان يكشف عن حقيقة موضوع بحثه والملابسات التي تحيط به, وتتفند الفرضية التي تقوم عليها التجربة بمجرد ان بثبت انها مخالفة للحقيقة؛ وكذلك انما يسعى المشروع الى وضع القوانين التي تكفل سعادة رعاياه ورفاههم بصورة حقيقية ويبادر الى إلغاءها واصدار قوانين أخرى بمجرد ان يثبت لديه انها غير صالحة لعرض الموضوع من أجله اما اذا امكن ان تتعدد الحقيقة فسوف يمكن ان تصدق الفرضية الأولى في التجربة كما تصدق الثانية كأن يكون ثقل الخشب النوعي أخف من ثقل الماء النوعي وأثقل في عين الوقت, وهذا تناقض صريح يرفضه العقل لأول وهلة.
وكذلك يمكن ان يصدق مع فرض تعدد الحقيقة قانوناً أو أكثر على المجتمع متحدان في الموضع مختلفان في الوسيلة والغاية, كأن يكون المجتمع الواحد رأسماليا أو اشتراكيا في نفس الوقت.
وبعد ان ثبت لدينا بالبراهين حقيقة العام الواحد فما علينا إلا ان نرجع الى فطرتنا وخالص عقولنا انرى ما اذا كانت هذه الحقيقة بنفسها غير محتاجة الى مؤثر خارجي قائم بنفسه مستغنا عن غيره عليها بالوجود.
ولا سبيل الى الاعتراف بالفرض الأول لأنه مناقض لقانون العلمية, هذا القانون البديهي الوجداني الذي يجده الإنسان منطبعا في نفسه انطباعا فطريا ويجده متحكما في العالم الخارجي بصورة مستمرة فثبت اذن الفرض الثاني بنفس دليل قانون العلية وهو ان يكون هذا العام صادرا عن خالق قدير ومنبثقا عن علة حكمية مديرة.
وإذ نرى ان الله تعالى يعظم قدرته وجليل حكمته وأوسع كبريائه موجد هذا الكون ومكون له ومنظم لقوانينه ومسير لأفلاكه ومنبت لنباته وخالق لإنسانه وحيوانه, نعلم ان هذا العالم الكبير والكون الواسع انما هو فيض ووجوده وظل من ظلال رحمته وان هذا الكون عدم محض لو لا استمرار لطفه ودوام تفضله عليه وانه لا شيء لو لا ذلك الوجود اللامتناهي المحيط به. وبهذا يتحول اعتقادنا من ان للعالم حقيقة مطلقة الى الاعتقاد بان الله تعالى الحقيقة المطلقة الأزلية الأبدية, الكاملة من جميع جهات الجمال, وان حقيقة هذا العالم فرع من تلك الحقيقة الكاملة التي يستمد منها وجوده وحقيقته ونظامه.
وحيث وصل بنى القول الى هذه المرحلة فما احرانا بأن هذا الكون ومدبره عالم بمصالحه ومفاسده وعالم بما يبعث به الحياة والبناء ويؤول به الى التبعثر والخراب, وهذا على درجة كبيرة من الواضح لأنه لو لم يكن عالما بشؤنه عارفا بمصالحه ومفاسده لما امكن ان يكون مدبرا له, وهذه نتيجة باطلة مختلفة لما توصلنا اليه بالبرهان السابق.
والنفس البشرية جزء من مخلوفات هذا الكون وهب الله تعالى بفضله لها وجودها وصورها فأحسن صورتها ووهب لها العقل والإدراك والفكر والإحساس ووهب لها أيضا العرائز والشهوات زودها بكثير من المميزات والطاقات, وفضلها على كثير مما خلق بما أعطاها من نعمة العقل لتميز به صالحها من فاسدها وتعرف به ربها وتطيع به أوامره ونواهيه وتحد به من شهواتها ونزواتها تسعى به نحو الفضيلة والكمال.
فالله تعالى اذن اعلم بها وبما زودها من الطاقات وبكيفية تكوينها واسلوب خلقتها وهو الذي يعلم -على وجه التحديد – ما تحتاج اليه في سبيل تكاملها ورقيها وما يجب ان تبتعد عنه لئلا تتسافل على الحضيض وتكون ظالمة لنفسها من حيث تدري ولا تدري.
وليس لأحد غير خالقها عز وجل ان يدعي لنفسه انه عالم بكنه النفس الإنسانية وبما يصلحها وما يفسدها لأنه هو بدوره جاهل بنفسه التي بين جنبيه وجاهل سبب مجيئها الى هذا العالم وكيفيته وزمن ذهابها منه ومكانه والى اين سوف تتجه بعد ذلك,ولولا الهداية الإلهية لبقية البشر جاهلا جواب امثال هذه الأسئلة الى الأبد.
اذن فمن الحق ان يمن الله تعالى على البشر فيأمرهم بما يعلم فيه صلاحهم وسعادتهم وينهاهم عما فيه فسادهم وشقاهم ويطلب منهم الامتثال مهددا بالعقاب للعاصي وواعدا بالثواب للممتثل فيما ثبت انه أمر أو نهي صادر من الله تعالى وجب علينا وجوب عقليا الزاميا لطاعته وامتثاله.
خالص الدعاء
اخوكم
هبة الله شرف الدين