اللهم صل على محمد وال محمد الطيبين الطاهرين
الحمد لله تعالى رب العالمين
الرياء :
الرياء المراد به الرياء في العبادة أي أن يجعل الشخص عبادة واجبة أو مستحبة وسيلة لطلب المنزلة عند الناس أما إذا لم يكن العمل عبادياً وجعله وسيلة للتقرب إلى الناس فرغم أن حرمته الشرعية ليست ثابتة لكن لا يخفى أنه إذا جعل شخص سيرته الرياء فقد سلك خلاف الصراط المستقيم للعبودية والتوحيد, وإذا استمر في ذلك فلن يكون بوسعه الوصول إلى مقام اليقين.
ثم إن من اعتمد الرياء في أفعاله غير العبادية فسيرائي في أفعاله العبادية وبناءاً عليه فطريق الإحتياط هو أن يجتنب أي نوع من أنواع الرياء.
الأمور التي يراءى بها:
" والمراءى به كثير وتجمعه خمسة أقسام البدن, والزي, والقول, والعمل, والأتباع والأشياء الخارجية " وكلٌّ منها إما أن يرائي به أهل الدنيا, أو المدّعون أنهم من أهل الآخرة وهذا إيضاح ذلك.
1 - " الرياء في الدين بالبدن ":
" وذلك بإظهار النحول والصفار ( إصفرار الوجه ) ليوهم بذلك شدة الإجتهاد وعظم الحزن على أمر الدين وغلبة خوف الآخرة, وليدل بالنحول على قلة الأكل, وبالصفار على سهر الليل وكثرة الإجتهاد وعظم الحزن على الدين وكذلك يرائي بتشعيث الشعر ليدل به على استغراق الهم بالدين وعدم التفرغ لتسريح الشعر ".
" إنه عرف أن الناس يستدلون بهذا على ذاك من هنا تظاهر بهذه الأمور ".
" فأما أهل الدنيا فيراؤون بإظهار السمن وصفاء اللون واعتدال القامة وحسن الوجه ونظافة البدن وقوة الأعضاء وتناسبها ".
2 - الرياء بالهيئة والزي:
وأما الهيئة فبتشعيث شعر الرأس وحلق الشارب وإطراق الرأس في المشي والهدوء في الحركة وإبقاء أثر السجود على الوجه وغلظ الثياب ولبس الصوف وترك تنظيف الثوب... كل ذلك يرائي به ليظهر من نفسه أنه من أهل العلم والزهد والعبادة... مع أنه لا حظّ له من العلم والدين ويبلغ به الرسوخ في الرياء بهذه الأمور حداً بحيث إذا أرادوا تغيير زيه فكأنهم يريدون قتله لأنه يخشى أن يقول الناس عنه أصبح من أهل الدنيا... وترك طريقة أهل العلم و " أما أهل الدنيا فمراءاتهم بالثياب النفيسة والمراكب الرفيعة وأنواع التوسع والتجمل في الملبس والسكن وأثاث البيت " وواسطة النقل ليجذب انتباه الناس إليه ويمدحوه ويعظموه.
- الرياء بالقول
وذلك بأن يعظ الناس ويحذرهم من شدة أمر الآخرة ويشوقهم إلى الجنة في حين لا وجود في قلبه لشيء اسمه الخوف من الله والآخرة ولا أثر فيه للشوق إلى الجنة وكذلك أن يقرأ الآيات والروايات ويحفظ معانيها ليظهر فضيلته أثناء الحديث أو أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر في حين أنه تارك للمعروف وفاعل للمنكر, أو أن يشغل لسانه في حضور المخلوق بذكر الله في حين أن قلبه غافل عن ذكر الله, يقرأ القرآن بحزن ليعرف أنه من أهل الخوف والحزن, يظهر الغضب من المنكرات ليشتهر بالتعصب للدين, يتحسر على قلة الدين بين الناس وتفشي المعصية وأنه لا أحد يفكر بآخرته وأمثال ذلك أو أن يدّعي لنفسه الأمور التي يمكن أن تشد الأنظار إليه وتكسبه احترام الناس فيقول مثلاً: أحفظ من القرآن والحديث المقدار الفلاني وأعرف معانيها الغامضة, خدمت العالم والأستاذ الفلاني المشهور واستفدت من علومه كثيراً, فلان العالم لم يعرف المسألة الفلانية وعرفتها أنا, يجادل في البحث لإظهار كثرة علمه واطلاعه... والرياء بالقول في الدين كثير وأنواعه لا تنحصر.
وأما الرياء بالقول في المجال الدنيوي فهو كأن يحفظ الكثير من تاريخ الدول وجغرافيتها وأحوال الأمم السالفة والأشعار والأمثال ليستعمل ذلك في تزيين حديثه ومجلسه ويشبع بذلك نزعة حب الظهور في نفسه أو يظهر التودد إلى الناس ليستهوي القلوب ويشتري ثناء الناس ومدحهم أو يتصدى لمدح شخص بهدف أن يبادله بالمثل... والواقع أن أنواع الرياء بالقول في الأمور الدنيوية أيضاً كثيرة.
4 - الرياء بالعمل:
كمراءاة المصلين بطول القيام ومد الظهر وطول السجود والركوع وإطراق الرأس وترك الإلتفات وإظهار الهدوء والسكون وتسوية القدمين واليدين وكذلك بالصوم والغزو والحج وبالصدقة وإطعام الطعام وبالإخبات في المشي عند اللقاء كإرخاء الجفون وتنكيس الرأس والوقار في الكلام حتى أن المرائي قد يسرع في المشي إلى حاجته فإذا اطلع عليه أحد من أهل الدين رجع إلى الوقار وإطراق الرأس خوفاً من أن ينسبه إلى العجلة وقلة الوقار ومنهم من إذا سمع هذا استحيا من أن تخالف مشيته في الخلوة مشيته بمرأى من الناس, فيكلف نفسه المشية الحسنة في الخلوة حتى إذا رآه الناس لم يحتج إلى التغيير ويظن أنه بذلك يتخلص من الرياء والواقع أن رياءه قد تضاعف فإنه صار في خلوته أيضاً مرائياً لأنه إنما يحسِّن مشيته في الخلوة ليكون كذلك في الملأ لا لخوف من الله وحياء منه.
وأما أهل الدنيا فمراءاتهم بالتبختر والإختيال وتحريك اليدين أو إنفاق المال الكثير في الضيافات والموارد التي تلفت الأنظار ليُعرف بين الناس بالثراء والكرم.
5 - الرياء بالأتباع وأمثالهم:
كالمراءاة بالأصحاب والزائرين والمخالطين كالذي يبذل جهده ليزوره عالم من العلماء ليقال إن فلاناً زار فلاناً, أو عابد من العباد ليقال إن أهل الدين يتبركون بزيارته ويترددون إليه, أو يحرص أن يكون له طلاب ليقدم نفسه للناس على أنه عظيم وملجأ وملاذ, وليس لهذا النوع من الرياء حد بحيث لا يعود يقنع بالشهرة والأتباع في المدينة التي هو فيها ويريد أن يشد إليه أنظار الناس في المدن بل في الدول الأخرى.
ومن الرياء بالأتباع أن يكثر من الخدم والمستخدمين ويكون معه منهم عدد في ذهابه وإيابه ليعظمه الناس, أو يشكل مجموعة أو حزباً ليكون له أعوان وأتباع, أو يصادق أصحاب المناصب الحكومية ويتردد إليهم ليعرف بين الناس بالنفوذ فيرجعون إليه في مشاكلهم ويتملقون له ومن الضروري الإلتفات إلى أن ما ذكر مما يراءى به للدنيا قد يكون عبادة ومن شؤون الآخرة, وذلك فيما إذا استعملها المؤمن بالمقدار الذي حدده الشرع وبهدف أمر الله, مثلاً: إذا كان هدفه إطاعة أمر الشارع بنظافة البدن واللباس وتنظف على هذا الأساس لا بهدف التزين للناس, فقد أدى عبادة, وكذلك إذا كان هدفه امتثال أمر الشارع بإظهار نعمة الله وحفظ ماء وجهه لذلك أعد البيت والأثاث المناسبين لشأنه لا بهدف التظاهر للناس, فذلك أيضاً عبادة وكذا في الموارد الأخرى.
مقتطفات من كتاب القلبُ السَّليم للسَّيّد عَبْد الحُسَيْن دَسْتغيْب
وفقكم الله تعالى ببركة وسداد اهل البيت عليهم السلام