وَعَجِّلْ فَرَجَهُمْ وَاهْلِكْ عَدُوَّهُمْ مِنَ الجِنِّ وَالاِنْسِ مِنَ ألاَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ
بِسْمِ الله الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
الْسَّلامِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ الْلَّهِ وَبَرَكَاتَةَ
فهل بعد هذه مأساة أعظم؟! وماذا عسانا أن نقول تبريراً؟!
إننا نطلب منه يومياً إنقاذنا.. بيد أننا مازلنا لا نفهم أن هذا الإنقاذ مرهون باستصلاح أنفسنا أوّلاً، فإنه لو تحقّق واجتمعنا اجتماعاً حقيقياً على بذل الروح في سبيل نهضته المرتقبة، ولم يكن ذلك منّا مجرّد كلام، بل كان كلاماً مقروناً بأفعال، فإنه (أرواحنا فداه) لن يتأخر - كما وعد - في الظهور والخروج من حال الاحتجاب والاستتار.
والآن.. هل يتحمّل قلب الواحد منا أن يقول له قائل: {أنت السبب في تأخّر ظهور إمامك المنتظر وأنت السبب في بقائه غائباً}؟!
ما من أحد منا يتحمل هذه الكلمة.. مع أنها كلمة حقّ وصدق!
كيف؟!
لنرجع قليلا إلى ما جاء في خبر تشرّف علي بن مهزيار رضوان الله عليه في موسم الحج بلقاء مولانا صاحب الأمر عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وهي القصة المشهورة في كتب التاريخ. فعندما آن أوان اللقاء وجاء الإذن من لدن مولانا الإمام عجّل الله تعالى فرجه الشريف، بعث أحد خدمته إلى ابن مهزيار ليأخذه ويوصله. كان علي بن مهزيار حينها عند باب الكعبة، يدعو بأن تتحقّق أمنيته الموعودة،
وإذا بالخادم يأتيه فيقول له: {ما الذي تريده يا أبا الحسن}؟
التفت ابن مهزيار بلهفة إلى السائل وقال جواباً: {الإمام المحجوب عن العالم}!
هنا لندقّق في جواب ذلك الخادم (رضوان الله عليه) والذي لم تكشف لنا الرواية اسمه..
بماذا أجاب ابن مهزيار قبل أن يأخذ بيده ويوصله إلى حيث حجّة الله على أرضه؟
لقد أجابه قائلاً: {ما هو بمحجوب عنكم! ولكن حجبه سوء أعمالكم}!! البحار ج53 ص321.
فهكذا إذن! ليس سوانا من جعل بقية الله عجّل الله تعالى فرجه الشريف يحتجب ويغيب! وهو أساساً ليس غائباً عنّا.. بل نحن الغائبون عنه! فبسبب سوء صنائعنا وأعمالنا حجبناه عن أنفسنا، وإلا فهو حاضر، يطوف بيننا، ولكن لا نراه.
إنه عجّل الله تعالى فرجه الشريف يحجّ معنا كلَّ عام ويقف في عرفة ومع ذلك لا نشخّصه ولا نراه! وهو يزور معنا كلَّ إمام ويقف أمام الأضرحة المقدسة زائراً ومع ذلك لا نشخّصه ولا نراه! وهو يحضر معنا كلَّ مجلس تُذكر فيه مصائب آبائه سلام الله عليهم ويسير معنا في مواكب الشعائر الحسينية ومع ذلك لا نشخّصه ولا نراه! كلّ هذا بسبب ذنوبنا ومعاصينا وسوء أعمالنا التي حرمتنا من رؤيته وجعلته محجوباً عنّا.
أما أولئك الذين اتقوا الله، وعملوا الصالحات، وجاهدوا الجهاد الأكبر والأصغر، جهاد النفس وجهاد الكفر والظلم والطغيان والضلال.. أولئك الذين استعاذوا بالله من الانزلاق في مهاوي الشيطان.. أولئك الذين ترجموا مبايعاتهم اليومية لإمام زمانهم إلى أفعال حقيقية، فأصلحوا أنفسهم وأصلحوا من حولهم، ودعوا إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.. هؤلاء هم الذين لم يحجبوا إمامهم عنهم! فيرونه في تلك المشاهد والمواقف ونحن لا نراه!
إن هذا هو ما يفسّر تلك الروايات والقصص العديدة التي ورد فيها أن الصالحين كانوا يتشرّفون بلقاء الإمام المهدي, ويشخّصونه ويتشرّفون بالتحدّث معه، فيما الآخرون المحيطون بهم، وفي المجالس والمواقف نفسها، لا يروْن شيئاً ولا يفقهون حديثاً!!
إحدى هذه الشواهد هي قصة المرحوم آية الله السيد محمد مهدي بحر العلوم الشهيرة، عندما كان السيد واقفاً على جانب الطريق مع جمع من حاشيته فيما كانت الطريق تغصّ بجماهير المؤمنين المعزّين اللاطمين في العزاء المعروف بعزاء (طويريج) في كربلاء المقدسة، وكما هو معلوم فإنّ هذا العزاء بالذات يتميّز بخصوصية ليست في سائر أنواع العزاء والشعائر الحسينية الأخرى، فالجماهير تركض وتصرخ وتضجّ بطريقة عنفوانية متسارعة حتى تصل إلى حرم أبي عبد الله سلام الله عليه، إلا أن السيد بحر العلوم ـ فجأة ـ خرج عن تلك الحال وانضمّ إلى الجماهير وفي وسط الطريق ضاجّاً لاطماً راكضاً ولم تنفع محاولات كلّ من حوله من حاشيته في ثنيه عن ذلك!
وبعد انتهاء مراسم العزاء سئل السيد عن سبب قيامه بذلك الفعل مع ما اقتضاه من تأثيرات قد تكون سلبية في عيون الناس على شخصيته ووقاره، فأجاب بعد إصرار من السائلين: {إنكم لم تروه! أنا رأيته! لقد كان مولاي صاحب الأمر مشتركاً في هذا العزاء بين الجماهير وهو يبكي ويضجّ على جده الحسين سلام الله عليه.. فكيف تريدون منّي أن لا أشترك فيه}؟!! راجع تاريخ النياحة للسيد صالح الشهرستاني ج2 ص73.
وهاهنا شاهدنا: لماذا لم تر كل هذه الجماهير المليونية إمامها ورآه فقط هذا السيد الجليل؟!
الجواب واضح: لو كانت الحجب مرفوعة عن هؤلاء لرأوه كما رآه السيد مهدي بحر العلوم رضوان الله عليه، لكنهم إذ لم يرفعوها عن أنفسهم بمزيد من التقوى والعمل الصالح فإنهم حجبوا إمامهم عن أنفسهم!
إن الموالي الصادق، إذا كان مؤمناً حقّاً، تقياً مخلصاً، عاملاً في طاعة إمامه واجتناب نواهيه، فإنه حتى لو كان أعمى البصر فإنه سيتمكن من رؤية الإمام! وإن الموالي المبتعد عن الالتزام بعهد الله وعهد رسوله وأهل بيته سلام الله عليهم فحتى لو كانت عيناه تتمكن من رؤية ما وراء الشمس فإنه لن يتمكن من رؤية الإمام الذي حجبه عن نفسه وإن كان الإمام واقفاً إلى جانبه!
وقد وقع هذا بالفعل، عندما شاء إمامنا الباقر سلام الله عليه أن يعطينا مثالاً على ذلك، فأخذ بصحبته أبا بصير رضوان الله عليه ودخل مسجد رسول الله صلّى الله عليه وآله في المدينة المنورة. فقال الإمام لأبي بصير: {سل الناس هل يرونني}؟
قام أبو بصير بسؤال كل من مرّ عليه برفقة الإمام: {أرأيت أبا جعفر عليه السلام}؟
وكانت الإجابة من الجميع: {لا}!! مع أن الإمام سلام الله عليه كان ماثلاً أمامهم مباشرة!
بعد فترة وجيزة، دخل أبو هارون المكفوف، رجل أعمى لا يبصر، فأمر الإمام أبا بصير بأن يسأل هذا، فسأله: {أرأيت أبا جعفر سلام الله عليه}؟
ماذا نتوقّع أن يجيب هذا الرجل الضرير؟
لقد أجاب: {أليس هو واقفاً}؟!
تعجّب أبو بصير من ذلك أشدّ العجب فسأل أبا هارون: {وما علمك}؟
فأجاب: {وكيف لا أعلم وهو نور ساطع}!! (الخرائج والجرائح ج2 ص596).
هكذا يرى الإمامَ ذو البصيرة وإن كان فاقداً للبصر! ويُحرم من رؤية طلعته البهيّة فاقد البصيرة وإن كان ذا بصر! فمن أيّ الصنفين أنت؟ أمِن ذوي البصر أم البصيرة؟
علينا أن نغيّر من مفهومنا لغيبة الإمام المنتظر عجّل الله تعالى فرجه الشريف من الآن فصاعداً، فليس هو الغائب عنّا، بل هو الحاضر الذي لا تعزب عنه أخبارنا، لكننا نحن الغائبون والبعيدون عنه! فلا نفكّر فيه كما نفكّر في سائر قضايانا وهمومنا الحياتية اليومية! بالله هل يفكّر الواحد منا بالسعي للقاء إمامه قبل أن يموت؟ وحتى إن طرأت على ذهنه هذه الفكرة، فهل يعمل باتجاه تحقيقها كما يعمل باتجاه تحقيق سائر طموحاته في الحياة؟!
إذا أراد أحدنا أن يصبح تاجراً عملاقاً، تجده لا يهدأ ولا يسكن حتى يتحقّق أمله، فيعمل من الصباح حتى آخر لحظة قبل النوم من أجل أن يصل إلى هذا المقام.. فهل منا من يكون على هذه الوضعية من العمل الدؤوب ليل نهار من أجل تحقيق الأمل بلقاء سيد الأكوان إمام العصر والزمان صلوات الله وسلامه عليه وأرواحنا فداه؟!
إن كان، لبان.. وإنه لقليل نادر!
ثمة توقيع شريف صدر من لدن الناحية المقدسة (صلوات الله على صاحبها) يؤكّد بكل وضوح أنّ اللائمة تقع على الذين انتحلوا التشيع وهم بعيدون عن الوفاء بالعهد الإلهي، وهو العهد الذي يقتضي طاعة أهل البيت طاعة مطلقة، في الأوامر والزواجر..
هذا التوقيع صادر إلى الشيخ المفيد (رضوان الله عليه) ويقول فيه مولانا الإمام صلوات الله وسلامه عليه: {.. فإنّا يحيط علمنا بأنبائكم، ولا يعزب عنّا شيء من أخباركم، ومعرفتنا بالزلل الذي أصابكم مذ جنح كثير منكم إلى ما كان السلف الصالح عنه شاسعاً ونبذوا العهد المأخوذ منهم وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون}!! (تهذيب الأحكام ج1 ص38).
هكذا يكشف لنا الإمام عن مأساتنا! نحن الذين نبذنا العهد المأخوذ منّا وراء ظهورنا وجنحنا نحو أهوائنا التي كان سلفنا الصالح من الشيعة الأبرار بعيدين كلّ البعد عنها.. فوا أسفاه على حالنا!
وبعد أن اتضحت الحقيقة، وهي أننا نحن الذين حجبنا عن أنفسنا إمامنا عجّل الله تعالى فرجه الشريف، وأننا نحن السبب في تأخير ظهوره، وأننا نحن الذين تركنا العهد والميثاق وعدلنا عن طريق آبائنا وأجدادنا؛ فما هو العمل الآن لكي نقترب من إمامنا عجّل الله تعالى فرجه الشريف أكثر ونصل إليه وننضمّ إلى كتيبة جنده الموعودة وننقذ أنفسنا؟!
إن الطريق لذلك رسمها لنا الإمام, نفسه وفي نفس التوقيع للشيخ المفيد، حيث قال: «ليعمل كلّ امرئ منكم بما يقرّبه من محبّتنا، وليجتنب ما يدنيه من كراهتنا وسخطنا، فإنّ أمرنا يبعثه الله فجأة».
فهو إذن العمل.. الالتزام بالعمل الصالح الذي ننال به محبّة أهل البيت سلام الله عليهم، والاجتناب عن العمل الفاسد الذي يجلب لنا كراهة وسخط أهل البيت والعياذ بالله. يجب أن نلتفت لحالنا قبل فوات الأوان.
لنفكّر! لِنَصْحُو! لنعمل! عسى أن يرزقنا الله رضى المولى صاحب الأمر أرواحنا وأرواح العالمين لتراب مقدمه الفداء.