اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يذكر التاريخ أن أول مأتم أقيم بعد واقعة ألطف مباشرةً تكوّن من السيدات والفتيات والعلويان وهن زوجات وأخوات وبنات الإمام الحسين (عليه السلام )والهاشميين الذين استشهدوا معه.. وقد عقد ذلك المأتم في العراء فوق ساحة المعركة وتحت بقايا شمس اليوم العاشر من المحرم، إذ كانت القلوب مثقلة بالأشجان والصدور ملأى باللوعة والأحزان، تعالت فيها صرخات نساء بني هاشم في كل ركن من أركان ألطف حيث قتل السبط الشهيد، فواحدة تندب أباها، وأخرى أخاها وثالثة وليدها، فتمت إقامة المأتم على الحسين (عليه السلام )بعد تجمع النسوة كأم كلثوم وزينب وسكينة وبقية النساء الهاشميات، وقيل أنه استمر ثلاثة أيام بلياليها.
كما أقيمت مآتم أخرى في وسط الطريق عندما سيقت النساء أسارى إلى الشام، فعلى طول الطريق كانت النساء يندبن قتلاهن وينشرن مظلومية أهل البيت(عليه السلام )والمبادئ التي قتل من أجلها الحسين وأصحابه.. يقول الإمام زين العابدين (ع): (وكلما دمعت عين واحد منا قرعوا رأسه بالرمح تارة وبالسياط تارة أخرى).
ولقد شاء الله أن يفضح جريمة بني أمية في عقر دارهم، إذ أقامت العقيلة زينب (عليه السلام )وبقية الهاشميات بيتاً للنياحة على الحسين الشهيد في دمشق بالذات، فلم تبق هاشمية ولا قريشية إلا ولبست السواد حزناً على الحسين (عليه السلام )وندبته..
وانتقلت المآتم الحسينية إلى المدينة المنورة (وكانت أول صارخة فيها على الحسين (عليه السلام )عندما قتل بكربلاء أم سلمة زوج النبي (ص) وذلك أن رسول الله دفع إليها قارورة فيها تربة من كربلاء، وقال لها: إن جبرئيل أعلمني أن أمتي تقتل الحسين وأعطاني هذه التربة، فإذا صارت دماً عبيطاً فاعلمي أن الحسين قد قتل.. صارت القارورة عندها فلما حضر ذلك الوقت جعلت تنظر إلى القارورة في كل ساعة، وفي يوم الطف رأتها صارت دماً عبيطاً! فصاحت: - واحسيناه! يا ابن رسول الله...!
فتصارخت النساء في المدينة حتى سمع في المدينة رجة ما سمع مثلها قط (كربلاء شهر حسين: 137)
وأقامت أم سلمة أول مأتم للحسين (عليه السلام )في المدينة المنورة، وكان الموالون والمحبون يأتون جماعات وفرادى ويحضرون المأتم ويقدمون تعازيهم ومواساتهم لأهل بيت النبوة، تارة بالنثر وتارة بالشعر ويعبّرون عن مشاعرهم وأحزانهم بأبلغ بيان وأجمل تعبير، حتى إنهم تركوا ثروة أدبية لا يستهان بها في التسلية والمواساة..
كان الواجب يقتضي إحياء أمر أهل البيت(عليه السلام )ليبقى كشريان نابض في حياة الأمة الإٍسلامية، يحفظ لها حيويتها بما يمثله من صور ناصعة للإسلام وأصالة لم تشبها شائبة.. لذلك استمرت المآتم ومجالس العزاء بالانعقاد، وتعاظم صداها على طول البلاد وعرضها لتعبر عن حالة الهيجان الشعبي، ورغم كل الصعاب واصلت مسيرتها على مر الأيام والسنين بقوة أحياناً وضعف أحياناً أخرى حسب ما كانت تسمح به الظروف.. ففي مدينة الدم والشهادة كان أول من أقام العزاء على الحسين في كربلاء من زوجاته الرباب (لما قتل الحسين أقامت امرأته الكلبية مأتماً وبكت عليه سنة كاملة) (لواعج الأشجان: محسن الأمين 176).
تروي كتب التاريخ أن أول زائر لقبر الحسين(عليه السلام )هو عبد الله بن الحر الجعفي لقرب موضعه منه، قصد الطف ووقف على الأجداث ونظر إلى مصارع القوم فاستعبر باكياً، ورثى الحسين بقصيدة معروفة:
يقول أمير غادر وابن غادر ألا كنت قاتلت الشهيد ابن فاطمه فواندمي ألا أكون نصرته ألا كل نفس لا تسدد نادمه (أهم مراراً أن أسير بجحفل إلى فئة زاغت عن الحق ظالمه) (الطبري: 6/271).
وجاء في بحار الأنوار أن أول من قرأ الشعر على مصيبة سيد الشهداء الإمام الحسين (عليه السلام )غير عبد الله بن الحر الجعفي المذكورة قصيدته آنفاً هو الشاعر عقبة بن عمرو السهمي من قبيلة بني سهم: إذا العين قرّت في الجنان وأنتم تخافون في الدنيا فأظلم نورها مررت على قبر الحسين بكربلاء ففاض عليه من دموعي غزيرها فما زلت أرثيه وأبكي لشجوه ويسعد عيني دمعها وزفيرها (بحار الأنوار: 10/167)
وذكر الشيخ الطوسي في رجاله: (إن أول زائر لقبر الحسين (عليه السلام )في كربلاء هو جابر بن عبد الله الأنصاري السلمي الخزرجي، ويظهر من استقراء الروايات الواردة في هذا الباب أن جابر بن عبد الله هو أول زائر للقبر في يوم الأربعين) (موسوعة العتبات المقدسة: جعفر الخليلي 8/257).)
لقد أثرت هذه الزيارات وأبيات الشعر تأثيراً فاعلاً في نفوس القائمين بها والمحيطين بهم.. لاسيما وأن مدينة كربلاء قبلة حجة للزوار، وعلى مدى الأشهر القليلة استقطبت الكثير منهم، والذين بادروا إلى نقل مشاهداتهم ورواياتهم عن تلك الواقعة المرعبة إلى ذويهم وأبناء قراهم ومدنهم، مما ساعد على تأجيج الحماس وإذكاء نيران الحقد ضد الطاغية يزيد، وهيجت مشاعر الناس البسطاء وأنصار آل البيت (عليه السلام )، فعبروا عن غضبهم بشتى السبل. فقال بعضهم شعراً أو نثراً أو خطاباً.. وهذا كثير بن كثير السهمي الشاعر يعجب لما وقع فيقول:
يأمن الظبي والحمام ولا يأ من آل الرسول عند المقام وهذه سيدة تخرج إلى الناس سائلة على لسان النبي (ص):
ماذا تقولون إن قال النبي لكم: ماذا فعلتم، وأنتم خيرة الأمم؟
بعترتي وبأهلي عند مفتقدي منهم أسارى وقتلى ضرّجوا بالدم ما كان هذا جزائي إذْ نصحت لكم أن تخلفوني بسوء في ذوي رحمي ولم يقتصر الأمر على هؤلاء، بل كان لتدخل كبار الشعراء وعتابهم المرير على المتقاعسين عن نصرة الحسين، الأثر الكبير في تأجيج النيران ضد بني أمية وفي تحريك الثوار..
يروى أن الفرزدق قال لما قتل الإمام الحسين (ع): (إن غضبت العرب لابن سيدها وخيرها، فاعلموا إنه سيدوم عزها وتبقى هيبتها، وإن صبرت عليه ولم تتغير، لم يزدها الله إلى آخر الدهر إلا ذلاً.. وأنشد: فإن أنتم لم تثأروا لابن خيركم فألقوا السلاح واغزلوا بالمغازل) (ديوان الفرزدق: دار صادر) وقال عبيد الله بن الزبير الأسدي معاتباً:
فإن أنتم لم تثأروا لأخيكم فكونوا بغايا أرضيت بقليل (الطبري: 6/214)
وبعد هذا كله وغيره نشطت وبصورة ملحوظة دعوات الثأر للحسين وصحبه، وكثرت المجالس التأبينية والمآتم.. وتجمع كتب التاريخ على أن أهل البيت وشيعتهم، كانوا يجتمعون يوم عاشوراء في كل عام في بيت من بيوت الأئمة من أهل البيت ويقيمون (النياحة)، حيث يستحضر أحد الشعراء مأساة الطف.. وكان هناك شعر غزير مملوء بالعواطف، ملتهب الوجدان، لم يسمح للشعراء آنذاك الجهر به سمي بشعر (المكتمات) الذي منع من التداول(دراسات حول كربلاء: إبراهيم الحيدري 709).
ولقد أتى هذا النشاط البسيط بمردود كبير لا يمكن نكرانه في ربيع الأول من عام 65هـ وفي عهد عبد الملك بن مروان قصد كربلاء جماعة من التوابين من أهل الكوفة يقارب عددهم الأربعة آلاف نسمة بقيادة سليمان بن صرد الخزاعي يطالبون بثارات الإمام الحسين، فازدحموا حول القبر كازدحام الناس عند لثم الحجر الأسود في الكعبة، ولم يكن إذ ذاك ما يظلل القبر فكان ظاهراً معروفاً) (الطبري: 3/417).
ومكثوا في كربلاء يوماً وليلة، بكوا وناحوا ثم رحلوا إلى (عين الوردة) فقاتلوا الأمويين فيها وقتل رأسهم سليمان بن صرد الخزاعي فتشتت شملهم. ولهم في رثاء الحسين خطب وقصائد ورد ذكرها في (تاريخ الطبري) وغيره، كابن الأثير الذي يقول عن التوابين: (ثم ساروا فانتهوا إلى قبر الحسين، فلما وصلوا صاحوا صيحة واحدة، فما رؤي أكثر باكياً من ذلك اليوم، فترحموا عليه وتابوا عنده من خذلانه وترك القتال معه، وأقاموا عنده يوماً وليلة يبكون ويتضرعون عليه وعلى أصحابه) (مدينة الحسين: محمد حسن الكليدار 2/73).
يتبــــــع