- إن الإنسان قد يقول: أنا أكاد أيأس من هذه الدرجة، فلماذا أطلب من الله مستحيلاً، كالذي يقول: يا رب!.. ارزقني الطيران في الجو من دون جناح؟!.. ولكن علياً (ع) كأنه يريد أن يرفع الاستغراب، فيقول: (فإنه لا ينال ذلك إلا بفضلك، وجد لي بجودك).. فالقضية قضية فضل، وقضية لطف، وليس استحقاق أبداً!.. الذي جعل النسر يحلق في الأجواء العالية من هذه البيضة المستضعفة، هل من الغريب أن يجعل الإنسان يحلق في الأجواء العليا في سماء المعنى؟.. فالرب هو الرب، والهادي هو الهادي!..
- بعض المحطات التأملية في سورة مريم:
- إن هناك محطات تأمل جميلة جداً في سورة مريم!.. هذه السورة التي ينبغي لكل مؤمنة أن تقرأها، لا قراءة من أجل تيسير ساعة الولادة مثلاً.. ولكن هذه السورة وسورة النور، من السور التي يطلب من المؤمنات قراءتها قراءة واعية ومتأملة!..
- إن السورة تبدأ بذكر بطل القصة، وهو زكريا (ع) ذلك الذي كان كافلاً لمريم.. فلزكريا (ع) حق على المسيح، لأن زكريا كان له دور تربوي، فهو كان كفيلاً لهذه المرأة الطاهرة.. والحق على الأم، يسري على الأولاد أيضاً!.. وبعبارة أخرى: لزكريا حق على المسلمين والمسيحيين في زمان الظهور، لأن عيسى المسيح (ع) سيهبط إلى الأرض، ليكون في ركاب الإمام المهدي (عج).. ووجود المسيح (ع) مع المهدي (عج) من موجبات قوة انتشار الإسلام بين المسيحيين، وتقوية خط الإيمان في صفوف المسلمين، فهذه تكون ببركات من عيسى (ع).. وعيسى (ع) هو ابن مريم (ع)، التي هي ربيبة زكريا (ع).. وبالتالي، فإنه يكون لزكريا حق علينا في زمان الظهور.
- إن زكريا (ع) هذا النبي العظيم، كان محروماً من الذرية، وكان يتمنى من الله -عز وجل- ذرية طيبة.. فناجى ربه وطلب منه الذرية الصالحة، واستحيبت دعوته.. فما هي الدروس العملية التي يمكن أن يستفيدها المؤمن من ذلك؟..
الدرس الأول: قال تعالى في كتابه الكريم: {إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا}: احتار العلماء في تفسير هذه الآية، من ناحية يقول: {نَادَى}، والنداء فيه رفع الصوت، وفيه جهر.. ومن ناحية يقول: {خَفِيًّا}، إذا كان بالإخفات، لماذا قال: {نَادَى}؟.. وإذا كان هو جهر، لماذا قال: {خَفِيًّا}؟.. فكيف نجمع بينهما؟.. قال العلماء في هذا المجال: بأن {نَادَى}؛ أي جهر بصوته، والتجأ إلى ربه.. ولكن ليس في العلن إنما في الخفية؛ أي عندما خلى بربه، كان ينادى ربه نداءً.. والنداء هو رفع الصوت، ويناسب الملمات.. ولهذا يونس (ع) في بطن الحوت نادى ربه؛ لأن الموقف عصيب، فهو في ظلمات ثلاث: ظلمة البحر، وظلمة الليل، وظلمة بطن الحوت.. فهو يحتاج إلى أن يرفع صوته!..
- فإذن، إن المؤمن له حالات مختلفة: تارة يناجي ربه سراً في العلن، وتارة ينادي ربه نداء في السر.. وما أجمل هذه الفقرة للإمام علي (ع) في المناجاة الشعبانية!.. حيث يطلب (ع) من الله -عز وجل- هذه المنزلة.. يقول (ع) في المناجاة الشعبانية -وهي مناجاة الأئمة جميعاً-: (فناجيته سراً، وعمل لك جهراً)؛ أي المناجاة في السر، ولكن العمل في العلانية.. إن أراد الإنسان أن يختار شعاراً للعاملين في المجتمع، فليكن هذا الشعار: (ناجيته سراً، وعمل لك جهراً).
الدرس الثاني: قال زكريا (ع): {رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}.. الإنسان المؤمن في مناجاته مع الله -عز وجل- يسترسل في الخطاب، إذ كان بإمكانه أن يقول: اللهم!.. هب لنا ذرية طيبة.. ولكنه أخذ يفصل، ويستعطف.. فقال: رب!.. أنا شيخ كبير، وهن العظم مني، ورأسي اشتعل شيباً.. وهذه من الصور البلاغية في القرآن الكريم، يشبه الرأس بنار مشتعلة، ولكن هذه النار ليست حمراء، إنها بيضاء، فهو بذلك يستعطف ربه.. أي يا رب انظر إلى وهني، وانظر إلى تقدم عمري.. فالإنسان إذا كبر سنه، كان في معرض الرحمة الإلهية.. وهنيئاً لمن أمضى شيبته في طاعة الله عز وجل!.. فرب العالمين يستحي أن يحرق نوره بناره، فشيبة المؤمن هي نور الإيمان!.. ولهذا المؤمن في شهر رجب، يمسك بشيبته ويقول: يا رب!.. حرّم شيبتي على النار!..
- فإذن، إن استعطاف رب العالمين، من أساليب الداعين بين يدي الله عز وجل.. فموسى (ع) في سفرته التي هرب منها من ظلم الظالمين، خرج منها خائفاً يترقب.. إنسان هارب، مطلوب للعدالة بتهمة القتل، يهيم على وجهه.. فهو مطلوب، وفقير، وجائع.. وإذا به -كما في بعض النصوص- بلغ بموسى الأمر إلى أنه يقتات من طعام الأرض، حتى بانت خضرة العلف من بطنه.. فعندما سقى لابنتي شعيب (ع)، لجأ إلى الظل ودعا ربه: {فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ}.. ذكر فقره، وهو إنسان مطارد.. ذكر فقره، وهو إنسان جائع.. وذكر فقره، وهو أعزب يحتاج إلى قرين صالح.. نعم، الدعاء له مقدمات استعطافية.
الدرس الثالث: وقال (ع): {وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا}؛ أي يا رب!.. ما دمت بين يديك، وجعلت بيني وبينك حبلاً ممدوداً من الدعاء، فأنا سعيد!.. فالسعيد هو الذي يمشي وهو على صلة بمبدأ السعادة في الوجود!.. إن السر في شيوع الهواتف النقالة هذه الأيام، هو أن كل إنسان: كبير وصغير، امرأة ورجل يريد أن يكون على اتصال بمن يحب.. والإنسان إذا فقد جهازه في سفر، وخاصة في سفر خطير، فإنه يعيش الاضطراب!.. والمؤمن كذلك له هذا الجوال دائماً وأبداً: إذا وقع في أزمة، أو في مصيبة، يكفي أن يشغل الجهاز ويبعث برقية مستعجلة إلى الله -سبحانه وتعالى- يقول عشر مرات منادياً ربه: يا الله!.. وإذا بالنصر ينزل عليه.. في معركة بدر دعا النبي (ص) ربه، فاستجاب الله دعوته، وأنزل الملائكة المسومة.. لذا علينا أن نقتني هذا الجوال الذي يعمل، والذي له خط، والذي له رصيد.. فالدعاء الشكلي الذي لا رصيد له، بمثابة جوال لا شحن فيه، ولا بطاقة فيه.. وعندئذ يكون الإنسان يتشبه بالمتصلين، ولكن لا اتصال في البين!..
الدرس الرابع: ثم يقول زكريا (ع) لربه: {وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا}.. فركريا (ع) لا يريد الذرية لتكون أداة لكسب المعاش، ولكنه يقدم مفهوما آخر لطلب الذرية والنبوة.. يريد ذرية كي يكمل خطه في الحياة: {يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ}.. فالمؤمن يريد ذرية، ليحقق بعض آماله التي لم يحققها.. وهنيئاً لمن ينظر إلى الذرية من هذا المنطلق، من منطلق إدامة الوجود!.. ورب العالمين شكور رؤوف، وهو أجلّ من أن يهمل هكذا إنسان!.. فأجره يستمر إلى القبر، وقد قال الرسول الأكرم -صلى الله عليه وآله وسلم-: (إذا مات ابن آدم، انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم يُنتفع به، أو عمل صالح يدعو له).. والذي يريد الذرية الصالحة، فعليه أن يبحث عن الزوجة الصالحة!.. ومن يريد منبتاً طيباً لولد طيب، لا ينظر إلى بعض المقاييس العرفية الباطلة: جمالاً، ومالاً، ونسباً، وشرفاً، وما شابه ذلك.. بل ينظر في النساء أية امرأة تحمل نطفته المباركة، فهو يريد رحماً، ويريد امرأة عفيفة، تهيئ ولده لأن يكون امتداداً له بعد مماته.. والذين يتزوجون من هذا المنطلق، وبهذه النية.. فإن رب العالمين يبارك في حياتهم!..
الدرس الخامس: فيأتيه النداء: {يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}.. لقد أجيبت الدعوة، وبشر بيحيى، وما أدرك ما يحيى!.. فرب العالمين ذكر يحيى بأوصاف، لم يذكرها لنبي من الأنبياء:
أولاً: يقول: أن اسم {يَحْيَى} هذا اسم خاص بالله -عز وجل- لم يجعل له من قبل سميا!.. والبعض يستغرب من الحديث المعروف: أن النبي (ص) هو الذي سمى الحسن والحسين!.. نعم رب العالمين يسمي يحيى بهذا الاسم.
ثانيا: يقول تعالى عن يحيى (ع): {وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ}.. حيث أن رقة القلب، والخوف من الله -عز وجل-، بلغت به (ع) إلى درجة أنه كان يصعق عندما كان يسمع مواعظ أبيه زكريا (ع).. فكان زكريا (ع) عندما يريد أن يعظ قومه، كان يفتش ويبحث ويقول: إياكم أن تجعلوا يحيى بينكم؛ لأنه كان يخشى عليه!.. نعم، هذه هي نتيجة الدعاء، أن يرزق مثل هكذا ولد يعيش هذا العالم.
ثالثا: يحيى (ع) هو أشبه الأنبياء بسيد الشهداء (ع)، حيث أنه قطع رأسه وأهدي إلى بغية من بغايا بني إسرائيل.. نعم، هذه الحالات الروحية قيمتها أن تتوج بالشهادة بين يدي الله عز وجل!..
الدرس السادس: عندما بُشر بيحيى (ع) {قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا}.. البعض قد يتعجب كيف زكريا يقول هذا الكلام!.. هل زكريا يشك في قدرة الله عز وجل؟.. ولماذا هذا السؤال؟.. الجواب هو: أن الأنبياء يتحينون الفرص للحديث مع الله عز وجل، فموسى (ع) عندما سئل: {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى}.. -والإنسان في محضر الكبار يختصر الكلام اختصاراً- ولكن موسى استرسل في الكلام، واستغل الفرصة ليقول: {هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى}.. وزكريا (ع) كذلك ما دام فتح الخط مع الرب، أخذ يناجيه: أن يا رب كيف ترزقني هذه الذرية، والمرأة أيضاً امرأة لا يتوقع منها الإنجاب.. فجاءه الجواب: {قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا}؛ أي يا زكريا الآن نريد أن نخرج منك ذرية، والآن نريد أن نجعل هذه الشجرة مثمرة!..
- فإذن، إن الإنسان عندما يدعو الله -عز وجل-، عليه أن لا ينظر إلى عظمة الحاجة، بل ينظر إلى عظمة المدعو، فهو يدعو رباً عظيماً كريماً، خلق الوجود من العدم، أخرج الوجود من ظلمة العدم إلى نور الوجود.. {وَالأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ}.. ولهذا إذا رق القلب، وجرى الدمع، وكنت تحت الميزاب، أو عند الحطيم، أو تحت قبة الحسين (ع)، أو في صحراء عرفة، لا تطلب من الله القليل.. كما يقول عوام الناس: اطلب الطلبات الكبرى من رب العالمين!.. فأشمل دعاء هو دعاء شهر رجب: (أعطني بمسألتي إياك جميع خير الدنيا وجميع خير الآخرة، واصرف عني بمسألتي إياك جميع شر الدنيا وشر الآخرة)!.. بمسألتي أي: ليس باستحقاقي، فأنا ما قدمت ثمنا، وليس عندي ما أعطيك يا رب!.. ولكن أنا سائل، ولكل سائل حق على المسؤول!.. فكيف إذا كان السائل مؤمناً؟.. وكيف إذا كان عالماً؟.. وكيف إذا كان ورعاً؟.. وكيف إذا كان من الدعاة إلى الله؟.. فإن أبواب السماء تفتح له!..
الدرس السابع: طلب زكريا (ع) من الله -عز وجل- آية: {قَالَ رَبِّ اجْعَل لِّي آيَةً}.. صحيح أن الإجابة قطعية، ولكن أريد منك علامة!.. من طبيعة البشر أنهم يريدون علامات الإجابة، وخاصة أن هذه العلامة إشارات بين المحب والمحبوب.. السلطان كريم حكيم يفي بوعده، ولكن الإنسان يتبرك بورقة منه.. إن العلاقة الغرامية بين الرجل والمرأة في شهر العسل، يضرب به المثل.. ولكن العلاقة بين الرب وبين العبد، الحياة كلها عسل: لا شهر ولا شهرين، ولا الدنيا، ولا البرزخ، ولا القيامة، ولا الجنة.. إنها علاقة ممتدة، هنيئاً لمن بادل ربه هذا الشعور!.. {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ}.. أشد حباً لله من كل من محبوب!.. ليس هذا شعار عرفاني، بل هو شعار قرآني.. فالقرآن يريد منا أن نصل إلى هذا المستوى، صحيح أنه يقول في آية أخرى، وكأنه تواضع: {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}؛ نحن نحب الآباء، ولكن اجعلوا حب الرب أكثر من ذلك!..
الدرس الثامن: أعطي زكريا (ع) سؤله: {قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}.. انظروا إلى الآية الإلهية!.. فرب العالمين ما بعث له طيراً مشوياً، أو مائدة سماوية، أو ورقة.. بل قال: {آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا}.. إذا كان السكوت من زكريا، فهذه ليست علامة!.. فالآية ليست صمت زكريا، وإنما الآية هي أن لسانه اعتقل عن الكلام، وسلب منه النطق مع البشر.. وأخذ يلهج بذكر الله -عز وجل- صباحاً ومساءً.. نعم، رب العالمين أراد أن يكرم زكريا بكرامة، وبعلامة على ميلاد يحيى، فحبس لسانه إلا عند ذكر الله عز وجل.. وهنا قيمة الذكر الخفي والدائم، والانقطاع عن الناس إلا فيما فيه رحجان.. هذه آية بين العبد وربه!.. علم زكريا بأن الله يحبه، وأنه سيعطيه سؤله، ويا له من سؤل!.. إنه يحيى!.. ذلك الذي كان يخر ويفزع من ذكر الله عز وجل.. وجعل الآية هي انقطاع اللسان عن غير الذكر.. وزكريا (ع) بقي على هذه الحالة ثلاث ليال، ثم عاد إلى الناس.. واستجاب الله -عز وجل- له دعوته.
- أن يعيش الإنسان فترة من حياته منقطعاً إلى الله -عز وجل- أمر جيد!.. فشهر رمضان شهر الانقطاع، وإذا فاتكم الشهر، فعليكم بالعشرة الأخيرة، على الأقل في ليالي الوتر، أو على الأقل في ليالي القدر!.. اجعل لسانك يعتقل ليلة إلى الصباح، ففي ليلة القدر لا تتكلم في كل ما هب ودب.. لأن كل ما تقوم به في هذه الليلة هو عن ألف شهر!..
الدرس التاسع: قال تعالى: {يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا}.. والذين يستغربون من إمامة الجواد (ع) وهو في سن التاسعة -مثلاً- ما هذه الآية: {وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا} إلا دليل على إمكان حصول ذلك، فيحيى (ع) صبي وهو في مرتبة الأنبياء.. وعيسى (ع) كان يكلم الناس في المهد، إذ {قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا}.. فرب العالمين إذا تعلقت مشيئته، أن يمن على عبد بدرجة من درجات القرب الخارقة، ما الذي يمنع عطاءه!..
الدرس العاشر: وقال تعالى أيضا: {وَحَنَانًا مِّن لَّدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا}.. وهذا الذي نفقده في حياتنا!.. فرب العالمين إذا أحب عبداً، جعل حنانه في القلوب: إما في قلوب عامة الخلق، إذا كان قائداً من قادة الأمة، وهذا الذي يفسر ظاهرة التفاف الأمة حول علمائها.. فهذا التفاف غير طبيعي، أي هنالك تصرف في القلوب، وحنان من الله عز وجل.. نعم، {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا}.. فمن طرق التأثير على الناس، أن تتملك هذا الود الإلهي.. وفي هذه الآية {وُدًّا} نكرة، والنكرة في اللغة العربية من علامات التعظيم والتفخيم.. حتى في هذه الآية {وَحَنَانًا} جاءت نكرة، لتبين حجم هذا الحنان.
الدرس الحادي عشر: كان يحيى (ع) له صفات منها: بره بوالديه {وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّارًا عَصِيًّا}.. إن المؤمن موجود وصول بربه، وصول بالناس، ومن صفات يحيى (ع) أنه بار بوالديه.. فالآية تنتقل من المقامات الروحية العالية، من مقام الحنان اللدني، ومن مقام الزكاة، والتقوى، إلى بره بوالده.. فالمؤمن موجود متكامل: في العبادة: متفرد في عبادته، وفي ذكره.. ولكن لا يجعل العبادة أداة للتعالي على المخلوقين!..
- إن البعض يقول: كيف أنا أحترم والدي، وهو غير متدين؟.. وكيف أحترم أم وهي -مثلاً- لها بعض الهفوات؟.. من قال: بأن الحكم معلق على الأمومة والإيمان؟.. فالقرآن الكريم رفع الالتباس، وقال: {وَإِن جَاهَدَاكَ عَلَى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ}.. هذا أب كافر يدعوك إلى الكفر، ولكن في الوقت نفسه {وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا}.. فالشريعة متكاملة ومترابطة، وتركيبة جامعة.. والذي يأتي بتركية ناقصة، هذا الإنسان ما جاء بالدواء الكامل!..
الدرس الثاني عشر: إن عيسى (ع) من أنبياء أولي العزم، وعندما يصل للسلام يقول: {وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا}!.. ولكن هنيئاً لنبي الله يحيى (ع)!.. ما هذا الود الذي ألقاه عليه، فرب العالمين يقول: {وَسَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا}.. حيث أن هناك فرقا بين {السَّلامُ عَلَيَّ} وَ{سَلامٌ عَلَيْهِ}.. فعيسى (ع) يسلم على نفسه، ولكن هنا رب العالمين يسلم على نبي الله يحيى!..
- إن ضمن المناجاة الموجودة في أمين الله: (اللهم!.. إن قلوب المخبتين إليك والهة، وسبل الراغبين إليك شارعة).. فالطريق مفتوح، والذي يمشي في طريق الأنبياء؛ تفتح له الأبواب.. والعمدة في هذه القصة، هي حالة الدعاء عند زكريا (ع).. فدعوة لزكريا (ع) في جوف الليل -صحيح هو نداء خفي- هذه الدعوة أوجبت له أن يعطى ولداً كنبي الله يحيى.. لذا على المؤمن أن يستدر هذا العطف الإلهي في مواطن الإجابة!.. *
اصدارت / شبكة السراج