
![]() | ![]() | |
اللهم صل على محمد وآل محمد وعجل فرجهم جرت العادة في المجتمعات الشيعية على قراءة السيرة الحسينيّة لاسيما أيّام العشرة الأولى من محرّم الحرام في كلّ عام ، وحيث إنّها تُكرّر كذلك فإنّها تتحوّل إلى جزء من الموروث الثقافي لأبناء المجتمع ، وتؤثّر في فكرهم وسلوكهم من حيث يشعرون أو لا يشعرون ؛ ولذا كان أمر تصحيح السيرة وتنقيحها ، وعدم ذكر المستهجن أو غير المقبول في العقول إلاّ مع التوضيح ، فضلاً عن غير الصحيح ، أمراً مهمّاً . وينبغي أن يُشار إلى قضية مهمّة وهي : أنّه لا ينبغي أن يُشكك في المسائل الثابتة بزعم أنّنا نقوم بتنقيح السيرة ، أو أنّنا لا نحبّ هذه الجملة ، أو تلك الواقعة ، فنقوم بحذفها من السيرة ؛ فهذا عمل خاطئ ، بل هو خيانة للتاريخ لو كانت الجملة ثابتة ، والنصّ صحيحاً . وكذلك الحال عندما يُستطرق من بعض الاُمور التاريخية غير الثابتة إلى التشكيك في جملة السيرة وأحداثها ؛ فإنّ ذلك أمر خطر . نعم ، السيرة كسائر أخبار المصادر التاريخية فيها الصحيح وفيها غير ذلك ، ولكن بحمد الله لم يتطرّق الخلل إلى أصل السيرة ، ولا إلى أحداثها الأساسية التي تنفع في الاقتداء والتأسّي ، ومع ذلك نحن نحتاج إلى تنقية ما علق بها . وهذا الأمر لا لجهة أنّ الآخرين ينتقدوننا ، وإنّما لجهة أنّ بقاء مثل هذه الشوائب يشوّه الصورة الحقيقية لصاحب السيرة العظيم . وفي الواقع ينبغي الالتفات إلى توجّهين خاطئين : الإصرار على أنّ كلّ ما في السيرة المنقولة في الكتب من غير تحقيق هو شيء مقدّس لا تطاله يد المحققين والمناقشة . وهذا خطأ ، لا سيما عندما نرى وجود قصص في بعض الكتب لا مصدر لها أصلاً ، أو أنّ مصدرها غير معتمد ولكن يتمّ التركيز عليها مثلاً من باب أنّها أكثر شجاً وأجلب للدمعة والحزن . والتوجّه الآخر معاكس لهذا بالتمام ، فهو يفترض أنّ الشك هو الأساس ، وأنّ كلّ ما لا يقبله عقله ، أو لم يصل إلى علمه فهو غير صحيح يجب حذفه ولو كانت أسانيده تامّة ، ولا يترتب عليه محذور سوى مخالفته للمألوف ، أو للنهج الفكري الذي يعتمده ذلك الشخص . ولقد بادر علماؤنا ومحدّثونا مشكورين إلى ذكر هذه المسائل والتحذير منها في نصائحهم للخطباء وقرّاء التعزية الحسينيّة ، فاعتبروا أنّ ممّا يعدّ كذباً ولا يجوز أخذ الأجرة عليه هو افتعال الروايات غير الصحيحة ، أو نقلها على نحو الجزم ، ولو كانت تؤدّي إلى غرض حسن ، وهو إشعار الناس بعظم مظلومية أهل البيت (عليهم السّلام) . فقد كتب المحدّث النوري (رحمه الله) كتاباً في آداب خطباء المنبر باللغة الفارسية باسم (لؤلؤ ومرجان) ، وضمّنه الكثير من النصائح في لزوم التثبت في النقل . ويذكر المحدّث الشيخ عباس القمّي عن كتاب (الأربعين الحسينيّة) للميرزا محمّد بن محمّد تقي القمّي نصيحة بالغة وموعظة جامعة ، منها : ... وأضحى جماعة من ذاكري المصائب لا يتورّعون عن اختراع وقائع مبكية ، وكثر اختراع الأقوال منهم ، واعتبروا أنفسهم يشملهم الحديث (( مَنْ أبكى فله الجنة )) ، وشاع هذا الكلام الكاذب مع الأيام حتّى صار يظهر في مؤلّفات جديدة ، وإذا حاول محدّث أمين مطلع منع هذه الأكاذيب نسبوها إلى كتاب مطبوع ، أو كلام مسموع ، أو تمسّكوا بقاعدة التسامح في أدلّة السنن ، وتوسّلوا منقولات ضعيفة توجب اللوم والتوبيخ من الملل الأخرى ، كجملة من الوقائع المعروفة التي ضبطت في الكتب الجديدة في حين أنّه لا عين ولا أثر لهذا الوقائع عند أهل العلم والحديث ، كعرس القاسم في كربلاء الذي نقله في كتاب (روضة الشهداء) من تأليف الفاضل الكاشفي ، وقام الشيخ الطريحي وهو من أجلّة العلماء والمعتمدين بنقله عنه ، ولكن في كتاب (المنتخب) أمور كثيرة جرى التساهل والتسامح بها ، وهي لا تخفى على أهل البصيرة والاطّلاع(1) . وأشار غيره من الفقهاء والمحقّقين إلى لزوم التدقيق فيما يُذكر في واقعة كربلاء ؛ فهذا السيد الأمين (رحمه الله) يقول مبيّناً خطورة ما يلجأ إليه بعض الخطباء : (... ولكنّ كثيراً من الذاكرين لمصابهم قد اختلقوا أحاديث في المصائب وغيرها لم يُذكر مؤرّخ ولا مؤلّف ، ومسخوا بعض الأحاديث الصحيحة وزادوا ونقصوا فيها ؛ لما يرونه من تأثيرها في نفوس المستمعين الجاهلين بصحة الأخبار وسقمها حتّى حُفظت على الألسن ، وأودعت في المجامع ، واشتهرت بين الناس ، ولا من رادع ، وهي من الأكاذيب التي تغضبهم (عليهم السّلام) ، وتفتح باب القدح للقادح ؛ فإنّهم لا يرضون بالكذب الذي لا يُرضي الله ورسوله (صلّى الله عليه وآله) ، وقد قالوا لشيعتهم : (( كونوا زيناً لنا ولا تكونوا شيناً علينا )) . وقد اكتسبوا ـ هم ومَنْ قبلها منهم وأقرّهم عليها ـ الإثم المبين ؛ فإنّ الله لا يُطاع من حيث يُعصى ، ولا يتقبّل الله إلاّ من المتقين ، والكذب من كبائر الذنوب الموبقة ، لا سيما إن كان على النبي (صلّى الله عليه وآله) وأهل بيته الطاهرين ...)(2) . وهنا ينبغي التفريق بين عدم الثبوت ، وعدم تعقله من قبل السامع ، وقد يغفل عن هذا التفريق كثير من الناس ، فقد يكون شيء غير ثابت من الناحية التأريخية ، وهذا يختلف عن أنّه لا يتقبّله ذهن هذا الإنسان ؛ فقد يكون المستوى الذهني لهذا الشخص غير مؤهّل لقبول بعض الحقائق ، ولكن لا يعني عدم تحقّقها وعدم وجودها تماماً ، كما إنّنا نجد اليوم حقائق في حياتنا المعاصرة لو سمعها الأقدمون لم يقبلها عقلهم . وربما يزعم البعض بأنّ التهويل والتضخيم للمصائب يقع في دائرة (حدّثوا شيعتنا بأعظم ما وقع علينا) ؛ لبيان مظلوميتهم ومأساتهم . وهذا غير صحيح ؛ فإنّ فيما وقع عليهم ممّا صحّ نقله شيئاً كثيراً يُستغنى بمثله عن افتعال بعض القصص ، أو زيادة الأقوال ، خصوصاً إنّ هذا الأثر يقول : (بأعظم ما وقع علينا) , أي لا بدّ من إحراز أو الاطمئنان بكونه ممّا وقع عليهم ، ثمّ ينتخب الأعظم منه ، لا أعظم ما لم يقع عليه . لقد كان آية الله الشيخ الشوشتري (قدس سره) يصعد المنبر ويصرّح بأنّه لا يحتاج المرء إلاّ إلى التأمّل في بعض الروايات التاريخية الثابتة ويستنطقها ليرى عظم المصيبة التي حلّت بأهل البيت (عليهم السّلام) ، فلماذا يأتي البعض بروايات غير صحيحة ، أو يبالغون في قسم من القضايا , وهذا ما يظهر لكلّ قارئ لكتابه المواعظ أو الأيام الحسينيّة ! فليس معنى التحقيق في الروايات التاريخية تجريدها من الجانب المأساوي ، أو حذف مواضع المصيبة ، وإنّما يعني أن تُذكر المصائب الحقيقية ، وهي كثيرة جدّاً. م/كتاب من قضاياالنهضة الحسينية الجزء (1) للشيخ فوزي آل سيف | ||
![]() | ![]() |