اللهم صل على محمد وآل محمد الطيبين الطاهرين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
قال النبي (ص):(الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا).
النبي (ص) شخصية إنسانية، تحمل بُعداً إلهياً، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ...﴾ [1] ، فالنبي (ص) يتميز بخصوصية الوحي إليه، الذي يرفعه عن مستوى البشر العاديين، وماهية الوحي ذكرها القرآن الكريم في آيات متعددة، قال تعالى: ﴿قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ [2] ، وصفات الموحى إليه كونه بصائر وهدى ورحمة، وكل هذه الصفات واقعة في إطار حفظ النبي (ص) من الهوى، ﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)﴾ [3] ، فالنتيجة هي أن ما يصدر عن النبي (ص) ليس بهوى، بل هو وحي فيه بصائر وهدى ورحمة، وهو (ص) متجرد في ذاته عن كل العناوين الشخصية أو العاطفية أو النسبية أو المحسوبية أمام الحق، بل كان كلامه (ص) (أتقى الناس من قال الحق فيما له وعليه) [4] تجسيد لأفعاله وسلوكه في كل شيء، وهذه المقدمة تفيدنا كثيراً في فهم حديث النبي (ص)، (الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا) [5] ، لأنّ ما يصدر عنه (ص) هو وحي إلهي، فلا يمدح أو يصف إلا في دائرة الحق والاستحقاق، وعلى هذا الأساس عندما يتحدث عن الحسن والحسين (عليهما السلام) وهما أبناؤه فلا ينطلق عاطفياً في وصفهما محاباةً أو ممالأة، بل لاستحقاق تام للوصف عن أهلية كاملة صادرة من معصوم، يريد أن يوجه للأمة خطاباً رسالياً، ليعرفها بعظمة هاتين الشخصيتين، ولا يوجد أعلى رتبةً وأوجز ألفاظاً وشمولية منصب من وصفهما بالإمامة، الذي يحمل البُعد العقدي والقيادي والمعنوي، وخاصية الإمامة لها ميزات عديدة:
الأولى: عقدية الإمامة.
الإمامة مسألة عقدية في الإسلام، لها طابع شمولي باعتبارها خلافة إلهية لإنسان كامل، يعلم ما يحتاج إليه الناس في كل شؤونهم، ومن آثار هذه الخلافة الإلهية تحقق الحكومة والخلافة الظاهرية، وقد بينت النصوص الإسلامية حقيقة الإمامة، قال الإمام الرضا (ع) :( إنّ الإمامة زمام الدين ونظام المسلمين وصلاح الدنيا وعزّ المؤمنين، إنّ الإمامة أس الإسلام النامي وفرعه السامي) [6] ، فكون الإمامة أس الإسلام يعني جزئيتها من الدين وهو تعبير آخر عن كونها مسألة عقدية.
الثاني: نصية الإمامة.
النبي (ص) عندما يقول:(الحسن والحسين إمامان..)، يبين أنّ الإمامة قائمة على مبدأ النص، الذي طبقه (ص) على إمامة الحسنين (ع)، لكون النص منهج قرآني مستقى من قوله تعالى: ﴿وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ [7] ، وقد ركز الله تعالى على الجانب السلوكي لمضمون هذه الآية في التعاطي مع ما يصدر من النبي (ص)، قال تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا ﴾ [8] ، فهذا يعني لا بدية الالتزام بما يصدر منه (ص) لأنه من الله تعالى: ﴿مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ﴾ [9] ، فالنتيجة أن تنصيص النبي (ص) بالإمامة هو من الله تعالى وليس من النبي (ص).
الثالث: الإمامة مبدأ ثابت.
النبي (ص) يوجه الأمة إلى أنّ موقع الإمامة لا يتأثر بالظروف والمتغيرات السياسية التي تمر على المجتمع الإسلامي، (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)، فالحسن (ع) إمام عقدياً، وإن لم يمارس المواجهة العسكرية والخلافة الظاهرية وتسلم إدارة شؤون الدولة، وأقعدته الظروف عن ذلك، وكذلك الحسين (ع) إمام حتى لو قام وحمل راية الجهاد، فالإمامة مبدأ عقدي منحه الله لإنسان كامل معصوم، يشخص المصالح والمفاسد من منطلق إلهي.
الرابع: حافظية الإمامة للأمة.
النبي (ص) عندما يقول: ( قاما أو قعدا )، فهذا إخبار غيبي لما يحدث من فتن في عصر هذين الإمامين (عليهما السلام) وتخاذل الأمة عن نصرة مواقفهما المبدأية التي تصب في مصلحة الإسلام ورفعة شأنه، وقد أشار النبي (ص) إلى المخرج من هذه الفتن في الساحة الإسلامية في عصري الحسنين (عليهما السلام) وهو الرجوع والأخذ بالإمامة لأنها تحفظ الأمة من التفرق والتشرذم، قالت السيدة الزهراء (عليها السلام):( فجعل الله الإيمان تطهيراً لكم من الشرك، ....وإمامتنا أماناً من الفرقة) [10] ، فالإمامة صمام أمان يحفظ الأمة من الفرقة والاختلاف، وهذا درس كبير يعلمه لنا الرسول (ص) في التعاطي مع الفتن والاختلافات في كل عصر باعتبار أنّ الحل فيها يكمن في الرجوع إلى الإمامة، التي تمتد زمانياً إلى يوم القيامة، قال النبي (ص):(من مات ولم يعرف إمام زمانه مات ميتة جاهلية) [11] ، أي في كل زمن إمام يجب معرفته عقدياً والأخذ بتوجيهاته أو من ينوب عنه من المراجع والقيادات الإسلامية المؤهلة، وما تشهده الساحة الإسلامية من حفظ للصف الإسلامي في أكثر من موقع في العراق وإيران ولبنان وغيرها من الدول الإسلامية يرجع إلى دور العلماء في الحث على الالتفاف حول الإسلام ومبادئه، لحفظ وحدة المسلمين وتماسكهم.
الدور التكاملي للحسنين (عليهما السلام).
هناك روايات متعددة عن النبي (ص) يذكر فيها دور وخصال الحسنين معاً، وهذا يحوي أسرار عظيمة منها الإشارة إلى الدور التكاملي في الجانب التنفيذي وإصلاح الأمة، فدور ومواقف الإمام الحسن (ع) خصوصاً الصلح كشفت أقنعة شخصيات ينظر لها بمنظار قيادي وديني، وبالتالي مهدت وهيأت لثورة الإمام الحسين (ع)، وهذا يؤكد صحة المقولة: أنّ ثورة الإمام الحسين (ع) حسنية قبل أن تكون حسينية.
معاناة الإمام الحسن (ع).
معاناة الإمام الحسن (ع) تتركز في عدم معرفة الأمة بحقه في كونه إمام زمانهم الذي لا يُكتفى بالاعتقاد بإمامته أو معرفته عقدياً من دون العمل بلوازم هذه المعرفة من خلال الطاعة، قال الإمام الباقر (ع) :(ذروة الأمر وسنامه ومفتاحه وباب الأشياء ورضا الرحمن تبارك وتعالى الطاعة للإمام بعد معرفته) [12] ، وقد طرح الإمام الحسن (ع) للأمة هذا المعنى عندما قَبِل الصلح، فسأله رجل عن ذلك، فقال:( ألستُ حجة الله تعالى ذكره على خلقه، وإماماً عليهم بعد أبي ؟ فقال الرجل : بلى. قال (ع) : ألست الذي قال رسول الله لي ولأخي : الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا ؟ قال الرجل: بلى، قال (ع): فأنا إذن إمام لو قمت، وأنا إمام إذا قعدت) ثم قال (ع):( إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يُسفه رأيي فيما أتيت من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً ، ألا ترى الخضر (ع) لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى (ع) فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه، حتى أخبره فرضي، هكذا أنا، سخطتم علي بجهلكم بوجه الحكمة فيه) [13] . فمن الواضح أنّ الإمام الحسن (ع) كان يعاني من الفئة التي لا تعطيه حقه من المعرفة والطاعة، وهذا منشأ بخس حقه من الأمة.
درس من سيرة الإمام.
إنّ الدرس الذي نتعلمه من سيرة هذا الإمام هو أنّ عقدية الإمامة لا بد أن تكون حاضرة في فكرنا النظري بالدليل والبرهان لتنعكس في سلوكنا فتتحول إلى طاعة تتحرك كقيمة سلوكية في واقع حياتنا، تُعبر عن إرادة جدية وعزيمة حقيقية نحو تغيير الذات، وعندها يتحقق التغيير الإلهي في ذاتنا، ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [14] ، وشهر رمضان فرصة للتغيير لتوفر كل العوامل الإيجابية من فتح باب التوبة ومضاعفة الحسنات والأعمال الصالحة والرحمة الإلهية والبركات الدائمة، وأيضاً انتفاء كل العوامل السلبية من غل الشياطين واندحارهم، نسأل الله أن يوفقنا والمؤمنين لاستثمار أوقات شهر رمضان فيما يرضيه ويصلح حالنا ويُغير سلوكنا.
[1] الكهف:110
[2] الأعراف:203
[3] سورة النجم.
[4] ميزان الحكمة للشيخ الري شهري ج1ص656.
[5] شرح إحقاق الحق للسيد المرعشي ج26ص48.
[6] الكافي للشيخ الكليني ج1 ص200.
[7] البقرة:124.
[8] الحشر:7.
[9] النساء:80
[10] بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج29ص223.
[11] بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج8ص368.
[12] الكافي للشيخ الكليني ج1 ص185.
[13] بحار الأنوار للشيخ المجلسي ج44ص2.
[14] الرعد:11.
الشيخ حبيب الحمد