إن أم موسى ليست من الأنبياء ولا من الأوصياء، ومع ذلك يلاحظ بأن الله عز وجل تَعاملَ معها تعاملاً غريباً، تقول الآية: {وَأصبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فاَرغاً إِن كَادَت لَتُبدِي بِهِ لَولا أَن ربَطنَا عَلَى قَلبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المُؤمِنِينَ}.. فهي امرأة أُبتليت في ذات الله عز وجل، وقد جاءها الأمر بأن تُلقي ولدها في النيل.. فأمواج البحر، وقلة الطعام أو انعدام الطعام والشراب، وجواسيس فرعون الذين يبحثون عن كل رضيع.. عندئذ قامت هذه المرأة بصفقة مع رب العالمين، وامتثلت الأمر الإلهي.. فالدرس العملي، هو أن خط الإتصال بعالم الغيب مفتُوح دائماً.. وصحيح أن بعض صور الإلقاء الغيبي، يحتاج إلى قابليات النُبوة.. ولكن أن يأتي جبرئيل ويطرق الباب، ويستأذن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، فهذه حالة خاصة بالأنبياء (ع).. أما المؤمن فهناك أيضا قناة اتصال بينه وبين الله عز وجل، فإن لم تكن هذه القناة، فكيف نفسر حركة أم موسى؟.. وعليه، فإن على المؤمنين جميعاً أن يحسبوا حساب الإمدادات الغيبية الإلهامية.. ولكن كيف؟.. ومتى؟.. وفي أي حالة؟.. فنحن لا نعلم، إلا أن المقدار المُسّلم أن هذا المدد يأتي عند الإنقطاع، وعندما يقوم الإنسان بحركةٍ إيجابيةٍ مع رب العالمين.
{أصبح فؤاد أم موسى فارغاً}.. أي أصبح القلب فارغاً من كل هم وحزن.. يا للعجب!.. أمٌ ألقت وليدها في النيل، وهي لا تعلم عاقبة هذا الولد!.. وكما هو معروف بأن الأنبياء والأئمه عليهم السلام، وهم في صغر السن لهم تَميّز وفيهم ما فيهم من الجاذبية.. أم ترمي بفلذة كبدها في البحر، ذلك الذي سيكون كليماً لله عز وجل في يوم من الأيام!.. فكل عوامل الضطراب والقلق مُجتمعة.. ولكن مع ذلك نرى بأن هذا القلب أصبح فارغاً، وأصبح مطمئناً.. فهذا الفراغ من كل هم وحزن من أين جاء؟.. {لولا أن ربطنا على قلبها لتكون من المؤمنين}.. فهذا الإيمان جعل قلب أم موسى فارغاً.. وحقيقة الأمر أن رتبة فراغ القلب، من أعظم صور البلوغ النفسي، والسير العرفاني إلى الله عز وجل.. والإنسان الذى يقوم بأنواع العبادات، وأنواع المجاهدات: سيفاً، أو قلماً، أو قولاً، أو قدماً.. ولكن له قلبا مضطربا، وقلبا يخشى المستقبل، ويقلق على الماضي، وغير مستقر.. فهذا القلب مقطوع الصلة بعالم الغيب، ولا صلة له بالله عز وجل، وهذا القلب لا يشبه قلب أم موسى.. دعك عن الأنبياء والمرسلين!.. قد يقول قائل: أين نحن والنبي الخاتم؟.. وأين نحن وأمير المؤمنين؟.. ولكن هل يقول: أين نحن وأم موسى؟!.. فأم موسى امرأة من أمة بني إسرائيل، ولكن تقدمت إلى الله عز وجل بخطوة -مضمون الحديث-: (عبدي تقرب إلي شبراً، أُقربك ذراعاً).. وهذا الذى حصل لأهل الكهف أيضا: {إِنهم فتيةٌ ءامنوا بربهم وزدنهم هدىً، وربطنا على قُلُوبهم}.. ويبدو أن هذه العملية متكررة فى حياة البشر.. فأهل الكهف اعتزلوا قومهم أيضاً، وقاموا بحركة جهادية فى سبيل الله عز وجل، فأعطاهم الله عز وجل هذه الخاصية.
إن الله عز وجل إذا أراد شيئاً هيأ أسبابه.. فالله عز وجل يُريد أن يجمع بين أمٍ وولدها المُلقى فى النيل.. يا ترى لو جمعنا عباقرة الأرض، والمفكرين وأرباب الفكر، ليوصلوا هذا الولد المُلقى فى اليم إلى هذه الأم.. هل يخطر ببال أحدهم هذا الأسلوب الذي اتبعهُ الله عز وجل؟!.. أنظروا إلى تدبير الله عز وجل:
أولا: سخر الرياح والأمواج، فقذفت بهذا التابوت حيث يُريد الله عز وجل.. فهذه الأمواج َساقت تابوت ومهد موسى، إلى أن أتى أمام قصر فرعون.
ثانيا: سخر قلب أعتى القلوب {أنا ربكم الأعلى} وإذا بهذا القلب يتحول إلى قلب لين.. ففرعون وزوجة فرعون، يتمنون هذا الولد {عسى أن ينفعنا أو نتخذه ولدا}، فتتحول مشاعر البغض والكراهية إلى مشاعر الحب.. وهنا أيضاً بيت القصيد، وهو أن الله عز وجل إذا أراد لمصلحة، أن يلين قلب الفاجر، لينه لصالح المؤمن.
ثالثا: {وحرّمنا عليهِ المَراضع}.. فالولد يحتاج إلى لبن، وهذه الأم وهذا الأب غير الحقيقيين، يُريدان حياة ولدهما.. إلى أن جاءت تلك المرأة {فقالت هل أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون}.
رابعا: {فرددناه إلى أمه كي تقر عينها ولا تحزن}.. تدبير طويل عريض إلى أن يجمع أم موسى بولدها.. فأرضعته من صدرها، وقرت عينها.. ولكن بعد مجاهدة بسيطة، وهو العزم على تفويض الأمر الى الله عز وجل.
وعليه، فإن السُنة هي السُنة، والمعاملة هي المعاملة.. ومن يعمل فعل أم موسى، فإنه يحوز على هذه الرُتب: يحوز على رُتبة ربط القلب.. ويحوز على رُتبة الوحي، والإلقاء في الروع.. ويحوز علي رُتبة تدبير الأمر، والتصرف في الأشياء: موجاً، وهواءً، وقلباً.. فالوجود والطبيعة تتفاعل وتتفاعل، لِتُقضي حاجة هذا المؤمن، الذي تبناهُ الله عز وجل للرعايةِ والتسديد
الشيخ حبيب الكاظمي